
الأنباء بوست / حسن المولوع
تجاوزت محاكمة الصحافي حميد المهداوي في استئنافية الرباط حدود المسطرة القضائية العادية، لتمتد إلى قلب المشهد الإعلامي والسياسي المغربي، حيث تتداخل الخيوط بشكل معقد بين حرية التعبير، استقلال القضاء، وأدوار مراكز النفوذ داخل الدولة والمجتمع، في لحظة دقيقة من تاريخ الحقل الصحفي المغربي الذي يعيش منذ سنوات على وقع محاكمات مثيرة للجدل.
منذ لحظة انطلاق المرافعات في جلسة الاستئناف الأخيرة، اتضح أن الملف لا يخضع فقط لمنطق القانون الجنائي أو قانون الصحافة، بل يستبطن أيضا رهانات سياسية خفية بين أطراف تتصارع داخل مربعات النفوذ. فظهور عبد اللطيف وهبي، وزير العدل الحالي، طرفا مدنيا في هذه القضية، وهو الذي لطالما قدم نفسه مدافعا شرسا عن الصحافة وحقوق الإنسان، فتح الباب واسعا لتساؤلات قد تطال حتى صورة السلطة القضائية نفسها.
لم يكن اختيار دفاع وهبي للانطلاق بمرافعة حول “الإسلام السياسي” بريئا أو عشوائيا، خاصة أن الملف لا يتضمن في جوهره أي اتهام سياسي مباشر للمهداوي. غير أن محاولة ربط خلفية المواقف السياسية للصحافي بالمناخ الإقليمي العام، عبر التعريف النظري بمفهوم “الإسلام السياسي” انطلاقا من موقع “ويكيبيديا”، سرعان ما ارتدت على صاحبها، بعدما أثار هذا الاختيار موجة من السخرية داخل قاعة الجلسات، وطرح أسئلة حول جدية أدوات التحليل المعتمدة في مرافعات يُفترض أنها تستند إلى اجتهادات قضائية وأكاديمية دقيقة.
الأدهى من ذلك أن دفاع وهبي لجأ إلى قرارات قضائية فرنسية وأمريكية لدعم أطروحاته، وهو ما فسره دفاع المهداوي بأنه انتقاص ضمني من مرجعية القضاء المغربي ذاته، في قضايا يُفترض أن يكون فيها الاجتهاد القضائي الوطني قادرا على التأسيس لمبادئ حرية التعبير وفق السياق المغربي.
وفي مستهل مرافعته، انتقد دفاع حميد المهدوي استناد دفاع عبد اللطيف وهبي إلى موقع “ويكيبيديا” لشرح مفهوم الإسلام السياسي، معتبرا أن ذلك استناد ساذج لا يرقى إلى مستوى نقاش قانوني رصين، خاصة وأن المفهوم يستدعي الرجوع إلى مراجع علمية متخصصة…
وأشار دفاع المهدوي إلى أن تقديم زميله لمجموعة من القرارات الصادرة عن محاكم دولية، من بينها محكمة النقض الفرنسية والمحكمة العليا الأمريكية، والمتعلقة بحرية التعبير والرأي والصحافة، يُعدّ في حد ذاته إقرارا ضمنيا بأن المتابعة يجب أن تندرج ضمن إطار قانون الصحافة والنشر، لا القانون الجنائي.
وأضاف أن مرافعته أي دفاع وهبي –ط انصبت في جوهرها على مقتضيات قانون الصحافة والنشر، وهو ما يناقض المقتضى الذي يطالب بتطبيق القانون الجنائي.
ولم يخفِ دفاع المهدوي عتابه على زميله بسبب استناده إلى تلك القرارات، قائلا إن الأمر يوحي وكأن الدفاع لا يعترف بأحكام وقرارات القضاء المغربي، أو كأن هذا البلد لا يتوفر على قضاء يمكن الاحتكام إليه.
وأضاف دفاع حميد المهدوي في السياق ذاته على أن القرارات التي قدمها دفاع عبد اللطيف وهبي لا يُعرف مصدرها بدقة، كما أن ترجمتها غير رسمية، ولا يمكن اعتمادها كوثائق مرجعية داخل مرافعة قانونية. وأكد أن مثل هذه القرارات، حتى تكون ذات حجية أمام المحكمة، يجب أن تتسم بالصفة القانونية وتُقدَّم وفقا للضوابط المعتمدة، حتى تكتسب القوة الإقناعية وتُؤخذ بعين الاعتبار.
وإذا كانت معظم مرافعة دفاع وزير العدل قد طغى عليها الطابع الإنشائي والتنظيري أكثر من ضبط النصوص والوقائع، فإن النقطة الأكثر استفزازا جاءت من العبارة التي أطلقها قائلا : “هل إذا قلت إن المتهم المهداوي به شيء في عقله سينتفض علي أم لا ؟”
وهي العبارة التي اعتبرها دفاع المهداوي إساءة شخصية تتجاوز أدبيات المرافعة، في ملف من هذا الوزن السياسي والإعلامي، بل تكشف في نظر بعض المتابعين عن ارتباك دفاع وهبي في مجاراة أساتذة المحاماة المخضرمين الذين ترافعوا إلى جانب المهداوي.
وربما هذا الضعف الذي طبع أداء دفاع وهبي، هو ما دفع ممثل النيابة العامة للتدخل في محاولة لتعزيز موقف الطرف المدني بشكل بدا واضحا حتى للحضور، حيث خاطب المهداوي ممثل النيابة العامة قائلا وسط الجلسة: “كيف أنك جهة اتهام وتدافع عن المشتكي أكثر من المشتكي نفسه؟”
وهي العبارة التي أطلقت موجة من التعليقات داخل القاعة وطرحت بدورها أسئلة حساسة حول تموضع النيابة العامة في مثل هذه الملفات ذات الطبيعة السياسية-الإعلامية.
ولا بد من الإشارة إلى لحظة لافتة خلال الجلسة، عندما تدخل رئيس الجلسة مخاطبا دفاع وهبي بقوله: “أنت الآن تواجه قامات كبيرة في المحاماة ونقباء لهم باع طويل في المرافعات… ومع ذلك امتلكت الشجاعة وأنت تدافع لوحدك.”
عبارة بدت كمحاولة واضحة لرفع معنويات المحامي الشاب، لكنها في الوقت ذاته عكست إدراك المحكمة لطبيعة التوازن المختل في الجلسة بين دفاع مخضرم صلب يمثل المهداوي، ودفاع مدني حديث العهد بدا مرتبكا في مجاراة ثقل الملف وتعقيداته.
أما على مستوى الجدل الأعمق، فقد حرص دفاع المهداوي على التذكير بأن النيابة لم تبادر إلى فتح أي تحقيق جدي في ما عُرف إعلاميا بـ”تسجيل من تحتها” المنسوب لعبد اللطيف وهبي ذاته، ولا في ملف حصوله على سيارة “كأتعاب” من موكلته السابقة هند العشابي، ولا حتى في المرافعات الضريبية الكبرى التي تولاها وهبي في نزاع شركة “وانا” مع “اتصالات المغرب”، والتي تسببت بحسب وثائق الملف في خسارة مالية ضخمة قدرت بـ 4.5 مليار سنتيم من الرسوم القضائية غير المؤداة.
هذه الأسئلة المحرجة، التي طرحها دفاع المهداوي أمام هيئة المحكمة، لا تبدو منفصلة عن طبيعة الأزمة الأعمق التي يواجهها الجسم الصحفي المغربي منذ سنوات. فمحاكمة المهداوي تحضر اليوم كجزء من مناخ عام يسود فيه ما يسميه بعض الفاعلين الحقوقيين بـ”تأديب الصحافة المستقلة”، خاصة بعد موجة من المحاكمات التي استهدفت صحافيين استقصائيين وناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، في ما يشبه رسائل غير مباشرة لإعادة رسم حدود المسموح والممنوع في تناول قضايا الفساد أو انتقاد دوائر القرار.
وفيما كان المهداوي يواجه هذه المرافعة بابتسامة واثقة لم تفارقه طيلة الجلسة، تتعزز القناعة لدى كثير من المراقبين بأن قضيته تجاوزت شخصه إلى اختبار حقيقي لمدى استقلال القضاء المغربي في قضايا حرية الرأي والتعبير. ومهما كانت نتيجة هذا المسار القضائي، فإن صورة هذه المحاكمة ستظل في الذاكرة الحقوقية والسياسية المغربية مرآة تعكس لحظة دقيقة من صراع محتدم بين الإعلام المستقل ومراكز القرار، في زمن بدأت فيه مؤشرات دولية عديدة تُسجل تراجعا مقلقا في تصنيف المغرب على مستوى حرية الصحافة والتعبير.

شارك هذا المحتوى