
الأنباء بوست/ حسن المولوع
لا يمكن التعامل مع تصريح الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إدريس لشكر، بشأن عدم ترشحه لولاية رابعة، باعتباره فقط التزاما أخلاقيا أو قراراً تنظيميا معزولا، بل يجب أن يُقرأ في سياقه التاريخي والسياسي، وفي ضوء التجربة الحزبية المغربية التي راكمت الكثير من “التحولات الشكلية” التي تخفي استمرارية بنيوية في منطق التدبير الحزبي.
صحيح أن إعلان عدم الترشح لولاية رابعة، جاء بشكل مباشر هذه المرة، وربما أقل “مراوغة” مما عهدناه في استحقاقات سابقة. لكن، إذا استحضرنا أن نفس الخطاب كان قد طُرح في أفق نهاية الولاية الثانية، ثم وقع الالتفاف عليه بفتح الباب لولاية ثالثة عبر تعديل النظام الأساسي، فإننا لا نعدم إمكانية تكرار نفس السيناريو، مع اختلاف الأدوات والمبررات.
ففي التنظيمات الحزبية التي تعاني من “شخصنة القرار”، لا يُعد النظام الأساسي سوى وثيقة قابلة للتأويل، بل وإعادة الصياغة، متى دعت الضرورة إلى ذلك. والمؤتمرات، التي يُفترض فيها أن تكون محطات ديمقراطية، تتحول أحيانا إلى مجرد لحظات لإعادة إنتاج الشرعية، لا لتداول القيادة.
وحين يُصرح لشكر بعدم رغبته في الترشح، يجب أن ننتبه إلى دقة اللغة: هو يرفض الترشح، لكنه لا يمنع إمكانية أن “تطلب القواعد الحزبية” استمرار الرجل في “تحمل المسؤولية التاريخية”، كما وقع سابقا، حين تم تقديم الأمر بعبارات من قبيل “المناضلون طالبوا بذلك”، و”الظرفية السياسية تقتضي الاستمرارية”.
إننا أمام مفارقة حزبية تتكرر: يتم الإعلان عن نوايا الانسحاب، لكن يُترك الباب موارَبا، إما بتعديل قانوني، أو بحركة مسرحية تنبع من “القاعدة”، فيتم تجديد البيعة التنظيمية، وتُمنح الولاية الرابعة، لا باسم الطموح الشخصي، بل باسم الضرورة السياسية.
ولذلك، فإن قراءة هذا الإعلان ينبغي أن تتم بحذر، لأن تجربة المشهد الحزبي المغربي علّمتنا أن “الإعلان عن الانسحاب” قد يكون هو نفسه المدخل للتمديد، إما عبر خطاب الإنقاذ أو سردية “لا أحد غيره مستعد لتحمل المسؤولية”.
وإذا كان المؤتمر سيُعقد في موعده، فإن السؤال لا يهم تاريخه، بل مضمون التحول الممكن: هل سنكون أمام تداول فعلي على القيادة؟ أم أمام إخراج جديد لتمديد مقنّع؟
هل سيتم إنتاج قيادة جديدة برؤية مغايرة، أم فقط تغيير في الوجوه تحت سقف نفس البنية؟
إن إعلان إدريس لشكر عدم ترشحه لولاية رابعة، رغم ما يحمله من رمزية على مستوى الخطاب، يظل، في غياب ضمانات تنظيمية واضحة، مجرد لحظة من لحظات إنتاج “الإيحاء بالتغيير” داخل البنية الحزبية، دون أن يعني بالضرورة القطع مع منطق الزعامة الممتدة.
ففي التنظيمات التي تتغذى على المركزية الشخصية، وتفتقر إلى ثقافة التداول الحقيقي، تظل إمكانية الالتفاف قائمة، لا بفعل خرق القانون، ولكن عبر إعادة تأويله، وتعبئة “المشروعية الجماهيرية” لتبرير الاستثناء.
ومن ثَم، فإن الحُكم على صدقية هذا الإعلان لا يُمكن أن يتم انطلاقا من النوايا المعلنة، بل مما ستُفرزه دينامية المؤتمر المقبل: فإما أن يُشكل لحظة قطيعة مع منطق “الزعيم الأوحد”، أو أن يُعيد إنتاجه بمفردات جديدة، أكثر نعومة، وأقل إثارة للجدل.
لكن، وإذا سلمنا جدلا بأن إدريس لشكر جاد في قراره بعدم الترشح لولاية رابعة، فإن السؤال الذي يُطرح بإلحاح لا يتعلق فقط بمصداقية القرار، بل بمآلاته: من سيخلف لشكر؟
هنا تظهر إشكالية جديدة، أكثر تعقيدا: مشكلة “الخلف” في غياب شروط “الزعامة”، لا سيما وأن الأسماء المتداولة في الكواليس لا تخرج عن احتمالين، كلاهما يطرح إشكاليات بنيوية:
أولا، هناك من يُلمّح إلى إمكانية أن يكون أحد أفراد عائلة لشكر هو “الوريث السياسي” المنتظر – سواء ابنه أو ابنته – وهو ما سيفتح الباب واسعا أمام تحول الحزب، نظريا اشتراكي ديمقراطي، إلى تنظيم ذي طابع عائلي، يشتغل بمنطق التوريث الرمزي، لا بمنطق التنافس الديمقراطي.
ثانيا، هناك من يطرح اسم المهدي مزواري، عضو المكتب السياسي، باعتباره شخصية مقربة من لشكر، ومرشح محتمل لرعاية الاستمرارية. غير أن هذا الاسم، وإن كان متداولا، تُلاحقه شبهة تقارير رسمية، منها ما أورده المجلس الأعلى للحسابات بخصوص ملفات الدراسات .
في ظل هذا الغموض، تطرح معضلة الزعامة داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سؤالا جوهريا: هل الحزب قادر فعلاً على إنتاج قيادة جديدة بشرعية نضالية وتنظيمية؟ أم أنه رهين بتوازنات فوقية تُعيد إنتاج الانغلاق بدل الانفتاح؟
قد يكون المدخل الأكثر عقلانية للخروج من هذا المأزق هو إعادة إحياء مبادرة المصالحة الاتحادية، لا باعتبارها مجرد “نداء عاطفي”، بل كمسار عملي لإعادة لمّ شمل الغاضبين والغاضبات، واستعادة الكفاءات التي همّشتها منطق الولاء، لا الكفاءة.
ذلك أن الخروج من مأزق “القيادة المؤجلة” و”الخلف المُبهم” لن يكون ممكنا إلا عبر تفكيك البنية الإقصائية التي ترسخت في السنوات الأخيرة، وفتح النقاش الداخلي الحقيقي حول مستقبل الحزب، لا فقط عبر بلاغات سياسية محسوبة، بل بمراجعة شجاعة للبنية التنظيمية وميكانيزمات إنتاج القرار.
عموما، فإن الإشكاليات المتراكمة داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تتجاوز مسألة الولاية الرابعة، إلى سؤال أعمق:
هل نريد حزبا قائما على إرث نضالي مشترك، أم مشروعا شخصيا يُعاد تشكيله حسب ميزاج الزعيم؟
وهل لا يزال هناك أفق لمصالحة حقيقية، تُعيد للحزب موقعه في المشهد السياسي، لا باعتباره تابعا للقرار، بل طرفاً فاعلا في إنتاجه؟

شارك هذا المحتوى