
الأنباء بوست/ حسن المولوع
في مشهد يتكرر بإنتاجية لا تخلو من إثارة السخرية، أصدرت جمعية هيئات المحامين بالمغرب بلاغًا يعلن عن “التوقف عن ممارسة مهام الدفاع”، وكأن الأمر يتعلق بإجازة صيفية من عبء الدفاع والمرافعة، دون توضيح الخطوات النضالية التي تضمن تحقيق نتائج فعّالة. بلاغ يُدخل المتقاضين في حالة من الدهشة والتساؤل حول مصير قضاياهم المستعجلة، وكأن هؤلاء مجرد أدوات يُضحى بها في معركة ذات أبعاد خفية.
وعلى ما يبدو، فإن جمعية هيئات المحامين بالمغرب قررت الانضمام إلى قائمة صُنّاع الإثارة والتشويق، بإصدارها هذا البلاغ الذي يعلن “التوقف عن ممارسة مهام الدفاع” ابتداءً من فاتح نونبر. قرار قُدّم في ثوب من “المستجدات المهنية”، ولكنه يُظهر بوضوح صورةً قاتمة لمسؤولية مفقودة وحقوق المتقاضين تُركت في مهب الريح.
تخيلوا هذا المشهد: قاعة محكمة ممتلئة بالملفات المتراكمة، وأعين المتقاضين الحائرة تبحث عن محامٍ واحد ينصفها أو يقدم دفوعًا تُسهم في حل قضيتها. لكن الجمعية التي يُفترض أن تكون الحامي للحق والمدافع عن المظلوم، قررت بدلاً من ذلك تعليق عباءتها والتواري عن الأنظار. فمن سيهتم إذن بمعاناة هؤلاء المتقاضين؟
وفي الوقت الذي تُبدي فيه الجمعية اهتمامًا لافتًا بمصالحها المهنية، نجد المتقاضين، الذين يبحثون عن العدالة ويُراهنون على صوت الحق، أصبحوا مجرد أرقام، تُستخدم في خضم النزاعات المهنية كأوراق ضغط على هذا الطرف أو ذاك. فأين ذهب الشعار القائل بأن “المحامي حامي الحقوق وصوت الضعفاء”؟ وهل يمكننا القول إن هذه القرارات تأتي لتشمل المتقاضين في دائرة الاهتمام، أم أنها باتت تقتصر على المطالب الفئوية البعيدة عن كل ما هو إنساني وأخلاقي؟
إن استمرار هذا الوضع يُظهر تناقضًا صارخًا؛ إذ أصبح المتقاضون محاصرين، بلا محامٍ يدافع عنهم، وبلا أفق واضح يعيد إليهم الأمل في قضاياهم المعلقة. وقد يكون هناك بلاغ مقبل يكشف عن خطوة أخرى في مسلسل طويل من نضال غير مفهوم، فيما يبقى المتقاضون هم الحلقة الأضعف، ينتظرون الحل في مسرحية عنوانها الأبرز: “حق المتقاضين… بين البلاغات الرنانة والواقع الصامت”.
ومع أن المحامي بطبيعته كائن حقوقي، يمتهن مهنة نبيلة قائمة على الدفاع عن الحق وتحقيق العدالة، فإن هذا القرار يُثير تساؤلات حول مدى استقلالية هذه المهنة الحرة. فالمحاماة، كالمهن الإنسانية الأخرى، لا ينبغي أن تتلقى تعليمات حتى من داخل مؤسساتها. فكيف إذن تحوّل المحامي من مدافع عن الحق إلى مجرد منفذ لتعليمات التوقف؟ أليس من المفارقات أن يُطلب من المحامي، الذي يكرّس نفسه لخدمة المتقاضين، أن يتوقف عن العمل في قضية قد تلقى عنها أتعابًا؟ كيف سيتعامل المحامون مع هذا الوضع؟ فهناك من تلقى مستحقات مالية من المتقاضين، وهناك من ينتظر منهم خدمات تتعلق بقضايا مصيرية، فهل من المقبول أن تتوقف مصالحهم بسبب هذا البلاغ؟
أما بالنسبة للمحامين الذين سجّلوا النيابة عن المعتقلين واستلموا أتعابهم قبل قرار الجمعية بالمقاطعة الشاملة، فهل سيستمرون في الدفاع عن هؤلاء أم سيعتذرون عن متابعتهم؟ وإذا كان القرار هو التوقف، هل ستتم إعادة الأتعاب، إن كانت لا تزال في أيديهم؟ هذه المسائل لا يُمكن تجاهلها، وكان يجدر بالمجلس أن يضعها في عين الاعتبار ويطرحها في محاضر الاجتماعات التحضيرية للبلاغ، حتى لا يكون القرار مجرد هروب من المسؤولية تجاه من هم بأمسّ الحاجة إلى الدفاع.
الأكثر من ذلك، أن هذا التوقف أيضًا يضر بمصلحة المحامين، إذ أن مصدر عيشهم يأتي من أتعاب المتقاضين، فلو توقفت المهنة لكان ذلك يعني توقف الأتعاب، وبالتالي تراكم مصاريف مكاتبهم وحياتهم، ما يعني أن التوقف الشامل لا يخدم أحدًا.
وفي مقارنة بسيطة، نجد أن مهنة المحاماة، تمامًا مثل مهنة الطب، تحمل طابعًا إنسانيًا يتجاوز مجرد المهنة. فهل رأينا الأطباء يستخدمون المرضى كورقة ضغط على السياسيين؟ هل سبق وأن أُغلقت المستشفيات أو العيادات في وجه المرضى بسبب نزاعات مهنية؟ بالطبع لا، فالطبيب كما المحامي، يُفترض أن يكون مسؤولًا، يمارس مهنته بإنسانية واستقلالية، بعيدًا عن الضغوطات والمصالح.
وهناك طرق كثيرة للاحتجاج لو شاءت الجمعية أن تعبّر عن مطالبها، مثل تنظيم اعتصام ليلي داخل المحاكم أو تنظيم مسيرة شموع كرمز للسلام والنضال النبيل، وليس التصعيد غير المبني على الحكمة. لأن الأهم هو إيجاد حلول حقيقية، وفي عالم السياسة والحوار، لا يوجد مجال لـ”أبداً أبداً”، فالحل يتطلب دائمًا ترك المجال للتفاوض والتفاهم والحوار البنّاء.
أمام هذا الوضع غير المفهوم، من اللازم إعادة النظر في هذه القرارات التي تُقحم حقوق المتقاضين في معترك مهني لا علاقة لهم به. فالمحاماة ليست مجرد مهنة، بل هي التزام تجاه المجتمع، ومسؤولية تجاه المتقاضين، ولا يصح أن يُستخدم حق الدفاع كورقة ضغط لتحقيق مكاسب مهنية.

شارك هذا المحتوى