
الأستاذ عبد اللطيف وهبي*
ما يؤلمنا كثيرا ، أنه بعد مواجهات وصراع ثلاثة أجيال من أجل تكريس مبادئ حقوق الإنسان ببلادنا ، أصبح يبدو في الأفق نوع من التراجع المثير للاستفزاز عن هذه المبادئ والمكتسبات .
وهنا أتذكر موقف الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران حين قال : ( إن حقوق الإنسان لن تكون أبدا مكسبا ) ، أي أنها ستظل موضوع صراع بين قوى مختلفة ، ولكن كل ذلك يتم داخل وحدة الدولة ونسقها العام لأن الدولة هي التي تجمعنا جميعا ، وحقوق الانسان لم تنشأ لمواجهة الدولة أو السلطة ، بل لتنظيم هذه الأخيرة وتحسين تدبيرها .
والموضوع الذي يطرح نفسه علينا ، الآن وبقوة ، هو تحول تطورات حراك مدينة الحسيمة والريف عموما ، إلى موضوع لإجراء تقييم حقيقي لقضية حقوق الإنسان ببلادنا ، ومن هذه الزاوية ظللت أراقب كيف تستطيع الدولة أن تتصرف وفقا لهذه الحقوق في ظل مثل هذه الأزمات ؟ وهذا هو الامتحان الحقيقي لمؤسسات الدولة .
لهذا يجب ألا يغيب عن الذهن ، أن الدولة نفسها جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان ، هذه المنظومة التي لا تحترم الا في ظل دولة مؤطرة قانونيا ومستندة مؤسساتيا ، وأي إخلال بها فلن يمس المنظومة وحدها فقط ، بل سيضعف الدولة نفسها ، لهذا فإنه واهم من يعتقد أن الوحيد الذي يذهب ضحية الخروقات هي الحقوق وحدها لكونها ذلك العنصر الهش داخل منظومة الدولة ، بل الدولة برمتها قد تكون الضحية .
علينا حينما نناقش قضية حقوق الإنسان في لحظة الأزمات ، أن نتعامل بنوع من الذكاء الجماعي البراغماتي لمواجهة مثل هذه القضايا الكبرى وهذه اللحظات العصيبة ، والدول الاكثر تجربة في مجال حقوق الإنسان تستحضر دور القضاء في مثل هذه الظروف ،ليس لحماية منظومة حقوق الإنسان فحسب ، ولكن لحماية الدولة ككل ، وهذا لا يعني إقصاء الفاعل السياسي ، بل يبقى هذا الأخير حاضرا بقوة بصفته مسؤولا عن إعمال واحترام منظومة حقوق الإنسان ، من خلال مراقبته للجهاز الإداري المكلف بإدارة الدولة على مستوى القرار السياسي لضمان حسن إدارته للأزمة .
لهذا في لحظات الأزمات لا يجب أن نضحي لا بمنظومة حقوق الإنسان ولابقوة الدولة وهيبتها ، فعندما تحضر مثلا مؤشرات حقيقية عن وقوع التعذيب ، أو عندما تتسرب صور أو أشرطة فيديو تمس بالكرامة الإنسانية الواجب احترامها ، فيجب قبل كيل الاتهامات لهذا الطرف او ذاك ، أن يقوم القضاء بدوره ، وعلينا كفاعلين حقوقيين وقانونيين أن نضغط في هذا الاتجاه ، حتى تكون نتائج القضاء حاسمة في بتر هذا التصرف المخل والشاذ عن الحقوق .
صحيح أن الدولة مسؤولة عن تصرفات موظفيها الذين هم مجموعة من الأشخاص ، غير أن تصرفات بعض من هؤلاء الأشخاص غير مرتبط بتصرفات الدولة ككل ، إلا إذا كان هذا التصرف متكررا وممنهجا بشكل ملاحظ ، وحينها تنتقل المسؤولية من الافراد إلى الدولة كجهاز ، وإلى الحكومة بصفتها المسؤولة السياسية عن تصرفات جهاز إدارة الدولة .
ومن ثم فدور الناشط الحقوقي في هذا المجال هو الدفاع عن منظومة حقوق الإنسان ، لكن في احترام المؤسسات القضائية لتقوم بدورها في البحث والتحقيق وتحديد المسؤوليات ، وبالكف عن توزيع الإتهامات يمينا ويسارا من خلال تحليلات تستند إلى مواقف مسبقة ، حتى لا نخسر مكتسباتنا في مجال حقوق الإنسان ، ونخسر كذلك مؤسساتنا ، فالإثنان من المكاسب التي صنعها المغاربة عبر سنوات من التضحيات الجسام من أجل بناء دولة تحترم فيها الحقوق والحريات ، ومن ثم فترتيب المسؤوليات عند وقوع انزلاقات هنا او هناك ، لا يعني إعدام هذه الجهة أو تلك ، بل لتحديد المسؤولية الفردية والمؤسساتية وإعمال القانون لفائدة العدالة ، لضمان أمن واستقرار المجتمع ككل مؤسسات وأفراد .
*محام ووزير العدل
أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة
هذا المقال من كتابه المسمى “في نقد السياسة “
سلسلة الحوار العمومي العدد 15
فبراير 2020

شارك هذا المحتوى