
الأنباء بوست/ حسن المولوع
في مغرب اليوم، يبدو أن الصحافة لم تعد سلطة رابعة، بل جريمة رابعة، وأضحى شعار المرحلة، الذي أسسته حكومة التغول السياسي، هو “اللي دوا يرعف”، وأن الصحافيين والصحافيات جميعهم باتوا “سجناء في سراح مؤقت”.
من الصحافي الجسور حميد المهدوي، الذي عوقب بالسجن والغرامة الثقيلة بناءً على شكاية وزير العدل عبد اللطيف وهبي، إلى الصحافية الشجاعة حنان بكور، التي أدينت بشهر موقوف التنفيذ وغرامة مالية بسبب تدوينة على فيسبوك، تتضح ملامح المنظومة التي تُخفي قمعها وراء واجهة قانونية مصطنعة. أما اليوم، فقد وصل الدور إلى الصحافي ياسين الحسناوي، مدير نشر موقع زون 24، الذي يواجه أبشع المضايقات والملاحقات القضائية في هجمة لا يمكن قراءتها سوى كجزء من مشروع استبدادي محكم يستهدف حرية الصحافة وكل صوت جريء.
القمع في المغرب لم يعد يطرق الأبواب فجأة؛ بل صار يرتدي بدلة رسمية ويحمل قفازات قانونية. فالمؤسسات التي كان يُفترض أن تحمي الصحافيين تحولت إلى أدوات تكميم، والمجلس الوطني للصحافة خير مثال على ذلك.
هذا المجلس، الذي يهيمن عليه الثنائي عبد الله البقالي ويونس مجاهد، لم يعد معنيًا بتطوير مهنة الصحافة ولا بضمان نزاهتها، بل تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات وقمع الأصوات الحرة. فالبقالي ومجاهد بسطا نفوذهما عبر قوانين صيغت على مقاسهما، وأحيانًا بتجاوزها دون أدنى مساءلة. والنتيجة: قطاع صحافة يعاني من اختلالات عميقة، حيث تُقصى المقاولات الصغرى لصالح “الحيتان الكبرى” التي تتغذى على دعم عمومي مُفرغ من أي محتوى تنموي أو ديمقراطي، مع تضييق ممنهج على الصحافيين حتى لا ينافسوا تلك الحيتان.
الثنائي عبد الله البقالي ويونس مجاهد يمثلان نموذجًا صارخًا لصراع الأجيال، حيث الأجداد يحاربون الأحفاد. فهذا الثنائي، الذي بلغ من الكبر عتيًا، يستولي على قطاع مهني تجاوزه لسنوات في ظل تطورات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. أما النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بقيادة عبد الكبير أخشيشن، فهي صامتة أمام هذه الانتهاكات. فلم نرها تتضامن مع المهدوي، أو بكور، أو الحسناوي، أو غيرهم من الصحافيين الذين يواجهون القمع، وتحولت هذه النقابة إلى مجرد دكان يجتمع فيه الموالون لشرب الشاي والقهوة والتقاط الصور.
إن قصة ياسين الحسناوي تكشف عن بُعد جديد في هذا المشهد المأساوي. فهو لم يتردد في مواجهة وزير الشباب والثقافة والتواصل المهدي بنسعيد، ووصفه بـ”المهيدي” على غرار شخصية درامية جسدت الابن العاق في مسلسل وجع التراب. وهو بذلك، قدّم نموذجًا نادرًا للصحافي الجريء الذي لا يهاب المنظومة. أما بنسعيد، الذي ينتمي لعائلة يسارية معارضة، فقد أصبح رمزًا للارتداد عن القيم التي كافح من أجلها والده ووالدته، ليصبح بوقًا لاستبداد جديد يُمارس عبر قنوات مموهة بالقانون.
المفارقة الكبرى أن بنسعيد، الذي يُفترض أنه يحمل إرثًا ثوريًا، جاء ليُعيد تشكيل المشهد الإعلامي بما يخدم المصالح الكبرى ويقصي الصحافة الحرة. فإنشاء “اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر”، كبدعة سياسية، لم يكن إلا قناعًا لتغطية فشل يونس مجاهد في تنظيم الانتخابات المهنية.
هذه اللجنة، التي وُلدت في غياب أي توافق ديمقراطي، تجسد ذروة الاستبداد الذي يُمارس باسم القانون، ويهدف إلى إقصاء المقاولات الصحافية الصغرى وتجفيف مواردها عبر ابتزاز الصحافيين والصحافيات بأداء واجبات الضمان الاجتماعي والضرائب مقابل الحصول على البطاقة المهنية وإذا لم يفعلوا ذلك فإن الاستبداد سيمارس في حقهم وأمام مرأى حماة القانون وتمنع عنهم بطائقهم، ليصبحوا معرضين للإعدام المهني.
ما يتعرض له الحسناوي، وغيره من الصحافيين الشجعان، ليس مجرد مضايقات فردية، بل هو انعكاس لمنظومة تُجيد قمع الأصوات الحرة بطرق ملتوية. فهذه المنظومة تُظهر الوداعة أمام المجتمع الدولي، لكنها تنهش كل صوت يجرؤ على كسر الصمت. فكيف يمكن الحديث عن تعزيز الجبهة الداخلية أو تحسين صورة البلاد حقوقيًا في ظل هذه السياسات المدمرة؟ وكيف نستنكر التقارير الدولية عن تدهور أوضاع حقوق الإنسان بينما يُمارس هذا القمع المقنع داخليًا باسم الديمقراطية؟
إن الحملة ضد الحسناوي ليست سوى حلقة أخرى في سلسلة طويلة من القمع المنهجي الذي يهدف إلى تركيع الصحافيين وجعلهم أسرى للخوف والترهيب. ففي مغرب اليوم، لا صوت يعلو فوق صوت الاستبداد المقنع، حيث يُمنع الصحافي من أن يكون شاهدًا أمينًا على العصر، ويُحاكم كل قلم يسعى إلى قول الحقيقة.
لكن ياسين الحسناوي وكل الصحافيين الأحرار يمثلون الضمير الحي لهذه الأمة، وهم الأمل الأخير في مواجهة منظومة لا تؤمن سوى بإسكات الجميع. لأن الحرية لن تُمنح، بل تُنتزع، ولن تصمت الأقلام الحرة مهما كانت قسوة القمع.

شارك هذا المحتوى