
الأنباء بوست/ حسن المولوع
اطلعت على ما سطره المختار لغزيوي في جريدة الأحداث المغربية تحت عنوان “الصحافة المغربية: مفترق الطرق!”، فوجدته كلاما يملأ الأسماع ضجيجا، ولا يحمل من الحقائق إلا ما يضحك العقلاء. مقالٌ ينوح كاتبه كما تنوح الأرامل، ويتحدث عن الصحافة وكأنها كانت قلعة شامخة فوق الماء أو بنيانا مرصوصا ، حتى جاء “الدخلاء بحسب وصفه” فهدموا بنيانها وشتتوا شملها. ولو كان في مقاله شيء من الإنصاف، لسأل نفسه قبل غيره: متى كانت هذه الصحافة المغربية بخير؟ أكانت بخير حين صار الصحافي موظفا عند من يدفع أكثر؟ أكانت بخير حين تحولت أعمدة الجرائد إلى نشرات رسمية تردد ما يُملى عليها؟ أم كانت بخير حين صار من يكتب الحقيقة متهما، ومن ينافق مكرما؟
قبل أن يتحدث المختار عن تنظيم المهنة بأكملها، كان الأجدر به أن ينظم جريدته أولا، التي أصابها الكساد ولم يعد يقرؤها أحد حتى ولو تم توزيعها بالمجان في المقاهي والادارات والطرقات. فكيف يتحدث عن إصلاح الصحافة وهو عاجز حتى عن إنقاذ الأحداث المغربية، التي انهارت منذ أن تولى إدارتها؟ بل إن مالك المجموعة الإعلامية، الأستاذ مولاي أحمد الشرعي، يعترف ضمنيا بفشلها، بدليل أنه ينشر مقالاته في الصحف الأجنبية ذائعة الصيت، لأنه يعلم أن لا أحد سيقرأها في الأحداث المغربية، التي يصرف عليها دون أن تحقق أي تأثير يُذكر .
لغزيوي يختبئ دائما خلف أزمة المقروئية في العالم ليبرر فشله، لكنه لا يسأل نفسه: لماذا تستمر جرائد مثل لوموند ولوفيغارو وواشنطن بوست وإلباييس في القوة والتأثير داخل وخارج بلدانهم؟ ولماذا لم تستطع الأحداث المغربية أن تكون جريدة مؤثرة مثلها رغم حصولها على دعم سمين من المال العام ؟ السبب واضح: لأنها لم تتطور، ولأن القائمين عليها، بمن فيهم مدير نشرها، حولوا الصحافة إلى وظيفة رتيبة، ينجزون مهامها بسرعة ثم ينصرفون لأشغالهم الجانبية، وكأن الصحافة ليست مهمتهم الأساسية! حتى الموقع الإلكتروني التابع لها يعاني من فشل ذريع، لأنه يدار بنفس الذهنية المتراخية، التي ترى في الصحافة مجرد حرفة لأداء الواجب وليس ميدانا للتنافس والتميز.
إن الأحداث المغربية ليست مجرد جريدة، بل هي جزء من تاريخ الصحافة المغربية، ومدرسة تخرج منها غالبية الصحافيين. ولذلك، فالتحسر عليها واجب، لكن ليس من باب النحيب والشكوى، وإنما من باب الغيرة الحقيقية عليها. أما من يتحدث عن “تنظيم المهنة” وهو عاجز عن إنقاذ جريدته، فمن الأولى به أن ينظر في بيته قبل أن ينظر في بيوت الآخرين. ومن المؤسف أن مدير نشرها يجد الوقت الكافي للجدال في فيسبوك، لكنه لا يجد الوقت لرسم خطط جديدة لتطويرها وإنقاذها من هذا الانهيار المخزي.
يتحدث لغزيوي عن حماية الصحافة من الدخلاء الذين يوجدون بذهنه ، لكنه ينسى أن الصحافة لا تحتاج إلى حراس على بواباتها، بل تحتاج إلى منافسة نزيهة، وإلى كفاءة حقيقية، وإلى رؤية متجددة. أما هذا العويل المستمر، فهو ليس إلا محاولة فاشلة للتغطية على العجز والفراغ. فالصحافة لمن يجيدها، لا لمن يرثها. الصحافة لمن يحترمها، لا لمن يجعلها أداة لتبرير فشله. وإن كان لغزيوي عاجزا عن إنقاذ جريدته، فالأولى به أن يصمت، بدلا من أن ينصب نفسه وصيا على مهنة لم يعد له فيها أثر.
المختار لغزيوي يتحدث وكأن الصحافة مِلْكٌ خاصٌّ له ولأمثاله، يتقاسمونها بينهم كما تتقاسم الذئاب الفريسة. يتحدث عن “الفضوليين” و”الدخلاء” بطريقة استعلائية ، وكأنه ولد وفي يده بطاقة الصحافة ووحده من له الحق في التنظير لها ورسم معالم مستقبلها ، وكأن هذا الميدان لم يكن يوما مفتوحا للكفاءة والاجتهاد. لكنه و كعادة من يفتقد الحجة يختبئ خلف العبارات الرنانة، ويطلب النجدة من الدولة كي تتدخل وتحميه هو وأمثاله من منافسة لم يحسبوا لها حسابا.
يظن المختار أن الصحافة تُحمى بالقوانين، ويغيب عنه أن الصحافة لا يحميها إلا صدقها ونزاهتها. فإن كانت الصحافة التقليدية تنهار اليوم، فلأنها خانت جمهورها، فبحث الناس عن البديل، فهل الذنب ذنب الجمهور، أم ذنب من باعوا أقلامهم بثمن بخسٍ دراهم معدودة؟
يتحدث الكاتب عن احترام المهنة وعن ضرورة التصدي لمن يشوهها، لكنه ينسى أو يتناسى أن أكبر من أساء للصحافة هم بعض المحسوبين عليها، ممن جعلوا الصحافة مطية للوصول، وممن لم يروا في الصحافة إلا بابا للاسترزاق، وممن أعمى الطمع بصائرهم فلم يعودوا يفرقون بين الخبر والإعلان المدفوع، وبين التحقيق الصحفي وخدمة الأجندات. أين كان المختار لغزيوي عندما تحولت الصحافة إلى تجارة؟ أين كان عندما صار الكذب مهارة، والتملق احترافا؟ أكان حينها يذرف الدموع على الصحافة كما يفعل اليوم، أم كان يصفق للخراب وهو يتسع شيئا فشيئا؟
استنجد المختار بالقانون الجنائي، وهذا جيد، رغم أن هذا الاستنجاد والاستجداء غايته الإقصاء والاستئصال، إقصاء من جعلوه قزما في مهنة رأس مالها الكفاءة، والبقاء فيها للأفضل وليس للأقوى. فنحن جميعا مع تنظيم المهنة، ونضم صوتنا إلى صوته، ونستنجد بالقانون الجنائي لمحاسبة من أُوكلت لهم مهمة التنظيم وفشلوا فيها، وما زالوا مستمرين في الفشل، ويتعلق الأمر بالمجلس الوطني للصحافة أو اللجنة المؤقتة لتسيير القطاع، فالفوضى عمت منذ تأسيس هذه المؤسسة، وبدل أن يقدم لغزيوي تشخيصا دقيقا للوضع، صار يقفز بدون تبان.
كان الأجدر بالمختار، إن كان صادقا، أن يطالب بمحاسبة المجلس الوطني للصحافة، ويطالب بالكشف عن التقارير المالية وعن الصفقات التي أبرمها هذا المجلس ونشر لائحة الحاصلين على البطاقات المهنية منذ التأسيس والى غاية 2025. فلو كان صادقا، لفعل هذا، لكنه لا يستطيع، لأنه إنسان فضولي وحشري و استئصالي.
لقد رأيتُ في مقاله العجبَ العُجاب! مقالٌ يُراد به غير ما يُقال، يُغلِّفُ نفسه برداءِ الغيرة على الصحافة، وهو في حقيقته مجرد صرخة يائسة في وجهِ الطوفان الإعلامي الجديد، الذي لم يستطع الكاتب وأشباهه مجاراته، فركبوا موجةَ “التفكير بصوت عالٍ”، وراحوا يُلقون باللوم على “الدخلاء” و”الفضوليين”، كأنّ الصحافة المغربية كانت تعيشُ في المدينة الفاضلة قبل ظهور هؤلاء!
مارس المختار من خلال مقاله أوهام الوصاية و”خطاب النبلاء”، وقسّم الناس إلى فئتين:
1. “نحن” الصحافيون النبلاء، حُماة المهنة، الذين نهلوا من العلم والمعرفة، وتشربوا أخلاق الصحافة “النبيلة”.
2. “هم” الدخلاء، الفضوليون، الذين جاؤوا من “العدم”، فعبثوا بالمهنة، ودنّسوا قدسيتها.
وواللهِ، لو كان هذا صحيحا، لكان حريًّا بنا أن نتساءل: أين كانت هذه الصحافة “النبيلة” حينما كان المواطن يُفتّش عن الحقيقة فلا يجدها؟ أين كان “الصحافيون الكبار” حينما امتلأت الصحف بالنفاق والتضليل؟
أما يعلم الكاتب أن الناس لم تهرب إلى “اليوتوبرز” حبا في “التفاهة”، بل هربت لأن الصحافة التقليدية خانت رسالتها، وباعت ضميرها، فوجد الجمهور في البدائل الرقمية ملاذا؟!
يصرخ لغزيوي طالبا يد الدولة لتتدخل، فـ”تحمي” المهنة من المتطفلين، وكأن القوانين لم تكن يوما في خدمة طبقة دون أخرى! ولكن هل كانت القوانين يوما تحمي الصحافيين الحقيقيين؟! أليس قانون الصحافة يُستخدم لتكميم الأفواه، لا لحماية المهنة؟
ألم يُضطهد الصحافيون المستقلون بالقانون نفسه، الذي يُراد له أن يكون اليوم سيفا مُسلّطا على رقاب المنافسين الجدد؟ أوليس الأجدر بالصحافة التقليدية أن تنافسَ بالحقيقة، لا بالاستجداء والبكاء؟
الصحافة لا تُحمى بالقوانين المُفصَّلة على مقاس “المهزومين”، بل تُحمى بالإبداع، بالنزاهة، بالمصداقية! أما هذه الاستغاثة بالمجالس واللجان، فليست إلا اعترافا بالعجز قبل أن تكون دفاعا عن المهنة!
إنّ مقال المختار لغزيوي ليس إلا مرثية يكتبها كاتبٌ لم يجد لنفسه موطئَ قدم في الإعلام الجديد، فراح يلطم ويصيح: “أنقذونا من هذا السيل الجارف!” لكنه لم يسأل نفسه السؤال الأهم: لماذا تخلّى الجمهور عن الصحافة التقليدية؟ ولماذا وجد ضالّته في المنصات الرقمية؟
الجواب بسيط، لكنه موجِع: لأن الصحافي الذي كان يُفترضُ أن يكون صوتَ الشعب، صار بوقا للسلطة!
إن من يتباكى على الصحافة اليوم كان بالأمس القريب جزءًا من المشكلة، فلا يحق له أن يقدم نفسه فجأة في صورة المصلح الناصح الأمين.
والحق أن الصحافة لا تحتاج إلى وصاية من أحد، ولا تحتاج إلى خطب رنانة عن “النبل” و”الشرف”، بل تحتاج إلى الصدق والنزاهة والاستقلالية.
أما هذا العويل، فلا يليق إلا بالعاجزين الذين لم يعد لهم في الميدان أثر، ولا في المشهد الإعلامي قيمة.
أما من يريد أن يحمي الصحافة بالقوانين وبالتحريض على إغلاق الأبواب في وجه المنافسين، فذاك إنما يقرُّ بإفلاسه قبل أن يدين غيره، ومن كان هذا حاله، فلينسحب بهدوء، وليترك الميدان لمن يستحقه.

شارك هذا المحتوى