
ذ.مراد أحتي / باحث في السياسات العمومية
الخطاب الملكي يؤكد أن المغرب على الطريق التنموي الصحيح
ألقى صاحب الجلالة الملك محمد السادس خطابه السامي أمام أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية الجديدة يوم أمس الجمعة 8 أكتوبر 2021 تطبيقا للفصل 65 من دستور المملكة، وقد كان هذا الخطاب كالعادة باعتباره إطارا مرجعيا للفعل العمومي فرصة ثمينة لتحديد ملك البلاد للخطوط العريضة للسياسة العامة للدولة.
من هذا المنطلق رسم العاهل المغربي لأعضاء المؤسسة التشريعية وعبرهم لعامة الفاعلين السياسيين وخاصة الحكوميين الطريق الصحيح لمواصلة بناء المغرب الجديد، من خلال توجيههم بمنظور ملكي استراتيجي إلى ثلاثة أبعاد رئيسية، يجب الاشتغال على بلورتها وتنزيلها من خلال سياسات عمومية متناسقة ومنسجمة في مختلف المجالات لمواصلة مسيرة التنمية ومواجهة التحديات الخارجية.
وفي مقدمة هذه الأبعاد أكد ملك المغرب على ضرورة تعزيز مكانة المغرب والدفاع عن مصالحه العليا، خاصة في ظل هذا السياق المتوتر والظرفية المشحونة بالعديد من التحديات والمخاطر والتهديدات.
إن تأكيد صاحب الجلالة على هذا البعد المتمثل في تعزيز مكانة المغرب عبر خطاب موجه لأعضاء البرلمان، يبين أن دور هذا الأخير يجب أن لا يبقى منحصرا في الشؤون الداخلية للبلاد، بل إن دوره ينبغي أن يمتد إلى نطاق أوسع من ذلك لتكون له آثار منفتحة على المستوى الخارجي كذلك، بالشكل الذي يمكنه من المساهمة في تعزيز مكانة الدولة المغربية والمشاركة في الدفاع عن مصالحها العليا في إطار الإختصاصات المخول له والمنصوص عليها في دستور 2011 خاصة الفصول 70 و71 و100 و101 و105 و106.
كما أن الخطاب الملكي في السياق نفسه والذي أبانت فيه الأزمة الوبائية عن عودة قضايا السيادة للواجهة والتسابق من أجل تحصينها في مختلف أبعادها الصحية والطاقية والصناعية والغذائية، قد شدد على ضرورة إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لاسيما الغذائية والصحية والطاقية.
وذلك رغم أن المغرب كما جاء في الخطاب الملكي قد تمكن في الأصل وفي أوج الأزمة من تدبير حاجياته، وتزويد الأسواق بالمواد الأساسية بكميات كافية في الوقت الذي واجهت فيه عدة دول إختلالات كبيرة في هذا الشأن، وهو ما يبين تمتع المؤسسة الملكية بملكة التخطيط الاستراتيجي المسبق والقدرة على الاستفادة من التجارب الماضية، كما يظهر حرص ملك البلاد الشديد على تعزيز الأمن الاستراتيجي للبلاد على المستوى الغذائي والصحي والطاقي للتصدي لكل خطر وبائي مشابه قد يواجهه العالم في المستقبل.
أما بخصوص البعد الثاني فبعدما أشاد الملك بالمكاسب التي حققها المغرب في حماية المواطنين ودعم القطاعات والفئات المتضررة، دعا إلى المرور إلى السرعة القصوى في إنعاش الاقتصاد الوطني، الذي يعرف تقدما ملموسا رغم الآثار غير المسبوقة لهذه الأزمة، حيث أوضح أنه “…من المنتظر أن يحقق المغرب، إن شاء الله، نسبة نمو تفوق 5.5 في المائة سنة 2021. وهي نسبة لم تتحقق منذ سنوات، وتعد من بين الأعلى، على الصعيدين الجهوي والقاري.”.
يبدو أن صاحب الجلالة أرسل في خطابه السامي رسائل واضحة لأعداء الوحدة الترابية، مفادها أن المغرب على الطريق الصحيح لاستكمال المسار التنموي الذي رسمه منذ تقلده العرش سنة 1999، وأنه لا يتأثر أبدا بالقرارات العدوانية التي يتعرض لها خاصة تلك القرارات العبثية الصادرة عن النظام الجزائري، وقد عزز خطابه بمجموعة من المؤشرات الدقيقة، حيث أكد أن القطاع الفلاحي من المتوقع أن يسجل خلال السنة الجارية نموا متميزا يفوق 17 في المائة، كما أن الصادرات عرفت ارتفاعا ملحوظا في عدد من القطاعات، كصناعة السيارات والنسيج والصناعات الإلكترونية والكهربائية، ما يجعلني أقول أن المغرب عمليا في السكة التنموية الصحيحة للإنتقال من دولة فلاحية إلى دولة صناعية كذلك.
لذلك واعتزازا بالمسار التنموي المغربي القوي أكد جلالته على “ورغم تداعيات هذه الأزمة، تتواصل الثقة في بلادنا، وفي دينامية اقتصادنا؛ كما يدل على ذلك ارتفاع الإستثمارات الأجنبية المباشرة، بما يقارب 16 في المائة، إلى غاية شهر غشت الماضي، وقد ساهمت هذه التطورات، في تمكين المغرب من التوفر على احتياطات مريحة، من العملة الصعبة..”، والواضح من ذلك أن الملك يرمي إلى إعادة الثقة إلى المواطنين في صناع القرار العمومي وفي الممثلين السياسيين، من خلال تعبيره عن رضاه بالمكاسب التي استطاع المغرب تحقيقها في المجال الاقتصادي، الفلاحي والصناعي والأمن الصحي، حيث واصل خطابه السامي “وهي كلها مؤشرات تبعث، ولله الحمد، على التفاؤل والأمل، وعلى تعزيز الثقة، عند المواطنين والأسر، وتقوية روح المبادرة لدى الفاعلين الاقتصاديين والمستثمرين”.
أما بالنسبة للبعد الثالث فقد دعا من خلاله الملك محمد السادس إلى التنزيل الفعلي للنموذج التنموي الجديد وإطلاق مجموعة متكاملة من المشاريع والإصلاحات من الجيل الجديد، كما عبر عن تفاؤل واضح تجاه هذه الولاية التشريعية التي اعتبرها منطلقا للمسار التنموي الإرادي والطموح، الذي “يجسد الذكاء الجماعي للمغاربة” كما جاء في نص الخطاب.
إن الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية يعد خارطة طريق واضحة المعالم للحكومة الجديدة، حيث ذكرها بأن النموذج التنموي ليس مخططا للتنمية فقط، بمفهومه التقليدي الجامد، وإنما هو إطار عام مفتوح للعمل، وتحقيق الإنجازات على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية.
واستنادا على تقنية تحليل المضمون في جانبها الكمي المعتمدة لتحليل التصريحات والخطب السياسية والصحفية، والتي اعتبرها سمير محمد حسين أداة للبحث العلمي تستخدم في مجالات بحثية متنوعة وعلى الأخص في علم الإعلام لوصف المحتوى الظاهر والمضمون للمادة الإعلامية المراد تحليلها، نجد أن الملك محمد السادس أشار إلى أن النموذج التنموي الجديد يفتح آفاقا واسعة أكثر من مرة، كما ذكر عبارة الأولويات والمشاريع والتنمية أكثر من مرة في الخطاب نفسه، مما يبين بشكل جلي أهم معالم المرحلة المقبلة والتي ستعرف إطلاق مجموعة من الأوراش التنموية الكبرى تنزيلا للنموذج التنموي لاسيما على مستوى الإستثمار والتأهيل الحقيقي للمنظومة الصحية.
وفي سبيل ذلك قدم صاحب الجلالة في هذا الخطاب للحكومة والبرلمان مفتاحا ذهبيا لتجويد الأداء العمومي، من خلال تأكيده على ضرورة الحرص على المزيد من التناسق والتكامل والإنسجام بين السياسات العمومية ومتابعة تنفيذها، فالمؤسسة الملكية وكما أبانت الممارسة تتمتع بمهارة التخطيط الاستراتيجي الذي يستمر رغم تغير الحكومات، فلا يستقيم أن تلغي كل حكومة جديدة السياسات العمومية في طور التنزيل المتخذة من قبل الحكومة القديمة، إلا للضرورة أو لكون التقييم المواكب أظهر فشل هذه السياسات، كما أن المؤسسة الملكية تدرك جيدا مزايا الإلتقائية والانسجام والتكامل بين السياسات العمومية ومدى قدرة هذه العناصر على تحقيق الأهداف المتوخاة بشكل ناجع وفعال.
ضمن السياق نفسه لابد من التنويه بإحداث وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالإستثمار والإلتقائية وتقييم السياسات العمومية، وأعتبرها خطوة هامة لمزيد من الجودة في عملية إعداد السياسات العمومية وتحقيقها على شكل آثار تمس الحياة المباشرة للمواطنين.
لذلك دعا ملك البلاد إلى إجراء إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط، قصد جعلها آلية مساعدة على التنسيق الاستراتيجي لسياسات التنمية، ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي، وذلك باعتماد معايير مضبوطة ووسائل حديثة للتتبع والتقويم، وهو ما أعتبره استجابة عملية ومتلائمة مع دستور المملكة الذي يعرف بدستور السياسات العمومية، ذلك نظرا لأن إتقان إعداد السياسات العمومية كمنظومة متناسقة ومنسجمة ومتكاملة، يمثل رافعة حقيقية للاقتصاد الوطني وللتنمية الشاملة وتجاوز الأزمات على منوال الدول الرائدة في هذا المجال خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
وختاما يشكل الخطاب الملكي بمناسبة إفتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية بتاريخ 8 أكتوبر 2021، خطاب إعادة الثقة إلى المواطن المغربي في المسؤولين السياسيين، من خلال عرض صاحب الجلالة لمجموعة من المكاسب التي تم تحصيلها على المستوى الاقتصادي والفلاحي والصحي، ورضاه على نتائج الأداء العمومي بناء على مؤشرات وصفها بكونها تبعث على التفاؤل والأمل وعلى تعزيز الثقة، كما أنه خطاب محفز لأعضاء الحكومة والبرلمان الجدد للإشتغال بمنطق المسؤولية وإعطاء كل ما في وسعهم لإستكمال مسار التنمية، كما أن هؤلاء الأعضاء في الحكومة والبرلمان ينبغي عليهم الاستجابة لدعوة ملك البلاد عن طريق خلق مزيد من التناسق والتكامل والانسجام بين السياسات العمومية ومتابعة تنفيذها، وهو ما أتوقع تحققه نظرا لكون هذه الحكومة تضم مسبقا وزارة منتدبة جديدة لدى رئيس الحكومة مكلفة تحديدا بالإستثمار والإلتقائية وتقييم السياسات العمومية.

شارك هذا المحتوى