الأنباء بوست/ حسن المولوع
منذ تسلمه حقيبة وزارة الشباب والثقافة والتواصل، أثبت المهدي بنسعيد أنه وزيرٌ يضع الديمقراطية تحت قدميه ليصنع منها وسيلةً لممارسة الاستبداد، في مشهدٍ يذكّرنا بالعصور التي كان فيها الطغاة يشرّعون الظلم بالقانون.
هذا الوزير، الذي يبدو أنه يرى في منصبه تعويضًا عائليًا عن سنوات منفى والديه، جعل من وزارته بقرةً حلوبًا لخدمة مصالح الريع السياسي والإعلامي، ضاربًا عرض الحائط بالدستور والقوانين التي تؤطر حرية الصحافة وتعددية الإعلام.
الوزير بنسعيد ليس مجرد مسؤول عادي؛ فهو ابن لأسرة يسارية معارضة. فوالده، سمير بنسعيد، أحد قادة منظمة “إلى الأمام” الماركسية، عاش في المنفى هربًا من الاعتقال، ووالدته سميرة كيناني، قيادية في حزب النهج الديمقراطي وعضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. لكن المفارقة تكمن في أن ابن هذا الإرث الثوري أصبح رمزًا لاستبداد جديد يُمارَس تحت غطاء القانون.
المهدي بنسعيد، الذي ينحدر من عائلة ذات جذور يسارية ومعارضة للنظام في مرحلة السبعينيات، جاء ليعيد تشكيل المشهد الإعلامي المغربي لا وفق متطلبات الحرية والديمقراطية، بل لخدمة “الحيتان الكبرى” من المؤسسات الإعلامية التي تعيش على دعمٍ عمومي لا يُترجم إلا إلى ضعفٍ في التأثير وخطابٍ متكلّس. أما المقاولات الصحافية الصغرى، التي تُمثل نبض الشارع وتعمل بتمويلاتها الذاتية لتقديم إعلام جاد ومسؤول، فقد أصبحت هدفًا مباشرًا لهذا الوزير المستبد، في سعيٍ منه لإقصائها وتجفيف مواردها تحت مبررات واهية لا تمت بصلة للمصلحة العامة.
ذروة هذا الاستبداد تمثلت في إنشاء “اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر”، التي جاءت كبدعة سياسية لتغطية فشل يونس مجاهد في تنظيم الانتخابات المهنية، بعد انتهاء ولايته الطويلة على رأس المجلس الوطني للصحافة. ويونس مجاهد بدوره ليس سوى امتدادٍ للعقلية ذاتها التي ترى في المنصب تعويضًا عن سنوات السجن والنضال في منظمة “إلى الأمام” الماركسية، التي كانت تهدف لإسقاط النظام. واليوم، نجد نفس الأشخاص الذين كانوا يناضلون بالأمس من أجل تغيير الواقع، يُستخدمون لإدارة المشهد الإعلامي بأدوات القمع والإقصاء بدلًا من الحرص على تنظيم القطاع وضمان تعدديته.
أبرز مظاهر هذا الاستبداد تجلّت في حرب الوزير على المقاولات الصحافية الصغرى التي أثبتت قدرتها على التأثير في الرأي العام بتمويلات ذاتية، رغم التحديات الكبيرة. فهذه المقاولات، التي تحمل على عاتقها مهمة تقديم إعلام مسؤول وجاد، تواجه الآن خطر الزوال بسبب قرارات الوزير بنسعيد، الذي يفضل دعم المؤسسات الكبرى التي تعيش على الدعم العمومي، رغم ضعف تأثيرها على المشهد الإعلامي.
الأكثر غرابة أن المهدي بنسعيد لا يخجل من دعم هيئات بعينها، مثل “الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين”، التي يرأسها إدريس شحتان، الصحافي الذي سبق أن زُجّ به في السجن لنشره أخبارًا كاذبة حول صحة الملك. فهذا الدعم يفضح نوايا الوزير في تفويض قطاع الصحافة والنشر لشخصيات مثيرة للجدل، بهدف حماية المؤسسات الإعلامية الكبرى التي لا همّ لها سوى استنزاف الدعم العمومي، دون تقديم قيمة إعلامية حقيقية.
الأخطر أن هذا التحالف بين الوزير وممثلي المؤسسات الكبرى يتجاهل تمامًا تنظيم المهنة، ويتجه نحو قتل التعددية الإعلامية. إذ أصبح واضحًا أن الهدف هو السيطرة على المشهد الإعلامي وتحويله إلى أداة تخدم المصالح الشخصية والريع السياسي. والأغرب أن النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بقيادة عبد الكبير اخشيشن، التي تدّعي الدفاع عن الصحافة والصحافيين، تبارك هذا التغوّل غير المسبوق، ولا همّ لها سوى عقد لقاءات روتينية والتقاط الصور وشرب كؤوس الشاي وأكل الحلوى في الفنادق المصنفة.
وفي خطوة تُظهر مدى تغوّل الوزير، بدأ بالترويج لفكرة فرض ضرائب على صناع المحتوى الرقمي، الذين يمثلون شريحة كبيرة من الشباب المبدع. فهذه الضرائب ليست سوى وسيلة جديدة لتكبيل الحريات وقتل الابتكار، في محاولة لإرضاء الحيتان الكبرى التي لا تريد أي منافسة، حتى لو كانت من شباب يعملون بمجهود فردي.
سياسة هذا الوزير تهدف بشكل مباشر إلى تحويل أموال صناع المحتوى إلى خزائن المؤسسات الكبرى، التي اعتادت على العيش من أموال دافعي الضرائب دون تقديم قيمة مضافة حقيقية للمجتمع.
الغريب في الأمر أنه، ورغم هذه التجاوزات الصارخة، لم نشهد أي تحرك من مؤسسات الحكامة مثل المجلس الأعلى للحسابات لافتحاص مالية المجلس الوطني للصحافة والمؤسسات الإعلامية التي تحصل على دعم منذ جائحة كورونا. كذلك، لم نرَ أي تدخل من مجلس المنافسة، رغم وجود خرق دستوري سافر يتعلق بإقصاء المقاولات الصحافية الصغرى تحت ذريعة القانون، وهو ما يهدد التعددية الإعلامية بشكل مباشر.
إن الوزير المهدي بنسعيد، ومن خلفه يونس مجاهد وإدريس شحتان، ليسوا سوى أدواتٍ لمرحلة جديدة من القمع المقنّع، حيث تُستخدم شعارات الديمقراطية وحرية التعبير لإقصاء الأصوات المستقلة، وقتل التعددية الإعلامية، وإفراغ المشهد من أي روحٍ للنقد أو الإبداع. فهذه السياسات، التي تنتهك الدستور وتُكرّس الاستبداد، لن تُفضي إلا إلى مشهد إعلامي هش، تهيمن عليه المصالح الشخصية والريع السياسي، بينما يُقتل الإعلام الجاد والمسؤول.
ما يفعله المهدي بنسعيد اليوم ليس مجرد قرارات إدارية؛ إنه عملية ممنهجة لإعادة تشكيل الإعلام المغربي وفق أهواء نخبة صغيرة تسعى للسيطرة على الخطاب العام. والدستور، الذي يضمن حرية الصحافة، أصبح مجرد وثيقة مهملة في مواجهة هذا الاستبداد المقنّع.
هذه السياسات القمعية لن تمر دون رد. فالإعلام الحر والمسؤول، الذي يقف الآن في مرمى نيران الوزير، سيظل حاضرًا رغم كل التضييقات. لأن الشعب المغربي لن يقبل أن تُكمم أفواهه أو تُقتل تعدديته الإعلامية لإرضاء مصالح ضيقة ومشاريع ريعية.
إن التاريخ سيذكر هذه الحقبة كفترة سوداء في مسار حرية الصحافة بالمغرب، لكنها أيضًا ستكون شهادة على صمود الإعلام الجاد أمام محاولات الإقصاء والقمع. فالكلمة الحرة لا تموت، مهما تكالب عليها المستبدون.
شارك هذا المحتوى