
الأنباء بوست/ حسن المولوع
ها قد طفح الكيل، وتوالت المقالات والبلاغات والمنشورات الفيسبوكية التي تنوح على “موت الصحافة”، حتى أصبح يُخيّل إلينا أننا أمام مأتم حقيقي، يجبرنا على لبس السواد وإقامة العزاء.
لكن دعونا لا ننخدع بهذه الخطابات العاطفية التي يُراد لها أن تكون حكما قاطعا، بينما هي في حقيقتها مجرد زفرات من نخب ألفت أن تكون وحدها في الساحة، فلما اقتحمها غيرها، أصابها الذعر والارتباك..
يحدثنا الأستاذ الجامعي عمر الشرقاوي عبر منشور فيسبوكي، بفضول زائد وحشرية في مهنة لا ينتمي إليها حاليا، وكان قد استعملها سابقا كدرج عبر به إلى الضفة الأخرى، عن “تنظيف البيت الصحفي”، وكأنه بيت كان مقدسا ونزيها منذ الأزل. فهل تلك (القداسة) التي وضعته في مدرجات الجامعة هي نفسها التي جعلته يصف حال الصحافة اليوم كما يصفها؟ أم أن القداسة في عهده كانت منزوعة، وكانت هناك المتاجرة في الملفات والسكوبات سلاحا في يد البعض من أجل الحصول على وظيفة؟ وأعتقد أنه يعرف أكثر مني كيف كانت تمشي الأمور وحكايات الأظرفة الصفراء وغيرها من الحكايات التي كنا نعلمها ونحن طلبة.
ألم يرَ عمر كيف تحوّلت بعض المنابر الإعلامية إلى دكاكين لبيع المواقف وتلميع الساسة، وكيف صار بعض “الصحفيين المحترفين” مجرد أبواق مأجورة لا تنطق إلا بما يُملى عليها؟ فأي مهنية يدافع عنها الأستاذ؟ وأي “طفيليين” يتحدث عنهم؟
لقد كثر النواح هذه الأيام على الصحافة، وكثر معه البكاء واللطم، لسبب بعضه معلوم النوايا والآخر مجهول، حتى بات البعض يتحدث عن مهنتنا كما لو كانت جثة هامدة تنتظر مراسم الدفن. وبينما يرفع الأستاذ الجامعي عقيرته بالتحسر على ما آل إليه الوضع، فإنه يتناسى ، عامدا أو غافلا ، أن الأزمة لم تبدأ اليوم، ولم يصنعها “الدخلاء” وحدهم، بل ساهم فيها “المحترفون” أنفسهم عندما جعلوا الصحافة مطية للمصالح وبضاعة لمن يدفع أكثر.
يحاول هذا الأستاذ الجامعي، وهو من هو في الاصطفاف معلوم، أن يقنعنا بأن الأزمة في “الوافدين الجدد”، وكأن معاهد الصحافة خرّجت على مر العقود كوكبة من الملائكة الذين لم تلطخهم أموال الإشهار ولا صفقات الكواليس.
إن الصحافة كانت دائما مهنة من يحترفها بإتقان، لا من يملك شهادة معلقة على الحائط. فالقارئ لا يسأل الصحفي عن دبلومه، بل يحاسبه على جودة مادته، على صدقه، على مواقفه. وانا أقول هذا الكلام لأنني درست الإعلام وأعرف من تخرجوا معي وقبلي وبعدي، فليس كل من تخرج من معهد يعد كفاءة. مع أنني أؤكد على ضرورة الدراسة قبل ولوج المهنة، لأن الإعلام هو علم قائم بذاته، خاصة في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، ولا يصح أن يكون هناك شخص له إجازة ما وفشل في إيجاد عمل في تخصصه ليتجه مكرها إلى الصحافة او يتخذها وسيلة للابتزاز من أجل الحصول على وظيفة . لكني أختلف مع الأستاذ عمر في كونه يرى أن من تخرجوا من المعاهد ملائكة نزهاء، لا يعرفون الرشوة ولا الارتزاق! فمن أين جاء إذن أولئك الذين باعوا ضمائرهم لمن يدفع أكثر؟ ومن أين جاء أولئك الذين جعلوا من الصحافة وسيلة للتسلق، حتى صار الصحفي أقرب إلى “السمسار” منه إلى صاحب رسالة؟
ثم تعالوا نتأمل هذا المنطق العجيب! فالأستاذ يريد منا أن نفرّق بين الصحفي والمؤثر والسياسي والمعارض، كما لو أن الصحافة لم تكن دائما مجالا يحتضن الجميع! وكأن الصحفي لا يجب أن يكون له لا رأي ولا موقف!
فبالله عليكم، ألم يكن الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل سياسيا؟ ألم يكن إدريس شوحي معارضا؟ أم أن المطلوب أن تظل الصحافة حكرا على فئة واحدة تتحدث بصوت واحد، وتسبّح بحمد الحكومة صباح مساء؟ الصحافة موهبة وحرفة ورسالة قبل أن تكون مجرد دراسة. فهل لنا أن نتذكر عبد الجبار السحيمي، خالد الجامعي، كريم غلاب، العربي المساري، مولاي مصطفى العلوي وغيرهم كثير؟ هؤلاء لم يتخرجوا من المعاهد لكن كانوا صحافيين من العيار الثقيل وكانت لهم آراء سياسية ومواقف.
ثم يتباكى الأستاذ في منشوره الفيسبوكي على تدني الأخلاقيات المهنية، بينما يعلم هو قبل غيره أن من باع الصحافة ليسوا هؤلاء “الجدد الذين يصفهم بالدخلاء” ، بل أولئك الذين تواطؤوا مع السلطة أو رأس المال، فحوّلوا الصحافة إلى صفقات ومصالح. فهل يريدنا الأستاذ أن نصدق أن الأزمة بدأت مع “اليوتوبرز” و”التيكتوكرز”، ولم تبدأ مع من حوّل الإعلام إلى سلاح في يد المتنفذين؟
والأدهى والأمرّ أن الحل عند الأستاذ هو مزيدٌ من التدخل الرسمي، وكأننا بحاجة إلى مزيدٍ من القوانين التي تخنق الإعلام! وكأن الصحافة لم تُقبر تحت مئات القيود، وكأن الحرية لم تُشنق بألف حبلٍ وحبل! فهل يريد لنا صاحبنا أن ننتقل من “الموت السريري” إلى “الإعدام العلني”؟ أم أن المطلوب فقط هو أن تبقى الصحافة في يد فئة بعينها، تفصّل لها القوانين كما تشاء، وتوزّع صكوك الغفران والاحترافية وفق هواها؟
لكن لا بأس! سنساير الأستاذ ونقبل فرضيته للحظة: الصحافة تعيش أزمة، ولكن السؤال هو: من الذي أوصلها إلى هذا الحضيض؟ من الذي جعلها مهنةً بلا ضوابط حقيقية، وفتح الباب على مصراعيه أمام الرداءة؟ من الذي سمح للمقاولات الإعلامية بأن تتحول إلى مقابر للإبداع، وإلى مصانع تنتج التافهين وتمجّد التافهين؟ أليس هؤلاء أنفسهم من يحتكرون المشهد، ثم يخرجون علينا اليوم ليتباكوا؟
دعونا لا نضحك على أنفسنا. الصحافة لم تمت، لكنها اختُطفت، وسُرقت، واستُبيحت. ولا يمكن لمن تواطأ في هذه الجريمة أن يقدّم لنا نفسه اليوم في صورة “المدافع عن المهنة”، وكأنه نبيٌّ جاء ليخلّص الصحافة من دنسها! لا وألف لا. إن كانت هناك صحافة تحتضر، فالقتلة معروفون، والضحايا معروفون، والجريمة موثقة في أرشيف المهنة. وأمام الله، ثم أمام التاريخ، لكل خائن حساب!
من يريد الدفاع عن الصحافة عليه أن يبدأ من حيث بدأ الانحدار. عليه أن يتساءل: من سمح بتحويل الإعلام إلى سوق للولاءات؟ من جعل من المؤسسات الصحفية دكاكين يملكها رجال الأعمال والسياسة؟ من فرض على الصحفي أن يكتب وفق التعليمات، وإلا وجد نفسه خارج المهنة؟
الأزمة ليست في الفايسبوكيين والتيكتوكرز. الأزمة في من صمتوا طويلا، فلما اشتدت الفوضى، تظاهروا بأنهم لم يكونوا شركاء فيها. ولكن، هيهات، التاريخ لا ينسى، والأرشيف لا يُمحى، ومن ساهم في إفساد الصحافة لن يصبح اليوم حارسها الأمين.

شارك هذا المحتوى