
الأنباء بوست/ حسن المولوع
يبدو أن الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين قد تركت الصحافة جانبا، وقررت أن ترتدي عباءة الضحية في بلاغ كُتب بأيادٍ مرتعشة، نُشر اليوم الخميس 20 مارس، والذي لا يمتّ للرصانة بصلة. فبدل أن تقدّم هذه الجمعية تشخيصا دقيقا للواقع وتحليلا موضوعيا لما تسميه بـ”المخاطر المحدقة بالمهنة”، انزلقت إلى خطاب أقرب إلى الشكوى، مليء بالتحريض والتباكي، وكأنها تريد وضع مفاتيح الإعلام بين يدي “وصيٍّ” يحدد من يحق له أن يتكلم، ومن ينبغي أن يُخرس
هذه الجمعية، التي من المفترض أن تكون صوت الصحافيين، اختارت أن تكون لسانا يلهج بالتحذير من “خطر اليوتيوب والتيك توك”، وكأن الإعلام التقليدي قد أدى مهمته بجدارة، ولم يبقَ إلا هؤلاء “المارقون الرقميون” ليعيثوا في الأرض فسادا
وإذا أمعنا النظر في هذا البلاغ، فسنجد أنه لا يخلو من مغالطات لا تليق بجمعية تزعم الدفاع عن الإعلام:
أولا: الحديث عن “قلب الموازين وجعل الاستثناء قاعدة”، وكأن الجمعية لم تستوعب بعد أن الإعلام لم يعد حكرا على فئة معينة، وأن عهد التحكم في المعلومة قد ولى بلا رجعة. فاصحاب هذه الجمعية يريدون إعلاما مغلقا خاصا بجنابهم ، بينما العالم بأسره ينفتح على المنصات الحرة والتعددية الإعلامية
ثانيا: الادعاء بوجود “خلط متعمد بين الصحافة وصناعة المحتوى”، وهنا يقع أصحاب البلاغ في تناقض مفضوح ؛ إذ يقرّون ضمنيا بأن الإعلام التقليدي فقد بريقه، وأن صناع المحتوى باتوا ينافسونهم في التأثير. فما الحل؟ بدل أن يطوروا أداءهم، قرروا أن يشهروا سيوف التجريم والتشويه، وكأن مهاجمة الجديد ستحيي الميت.
ثالثا: التحذير من “عصابة اليوتيوب في الخارج”، وكأن أصحاب البلاغ لم يجدوا من يلقون عليه اللوم سوى بضع مقاطع على يوتيوب فهل صار أمن الدولة يُهدَّد من شاشة هاتف؟ أم أن هناك أزمة حقيقية في الصحافة التقليدية، تحاول الجمعية التغطية عليها بالصراخ والعويل؟
رابعا: الإشادة بـ”اللجنة المؤقتة لتسيير القطاع”، وهذا هو مربط الفرس فالجمعية هنا ليست بصدد الدفاع عن الصحافة، بل تبارك توجها سلطويا يهدف إلى إعادة رسم المشهد الإعلامي بما يناسب مصالح قلة تتحكم في مصير المهنة. وبالتالي فإنهم يريدون قانونا يقصي، لا قانونًا ينظم. ويريدون إعلاما على مقاسهم، لا إعلاما يعبر عن المجتمع.
خامسا: الحديث عن “أن لا أحد فوق المساءلة”، وهنا نطرح سؤالا بسيطا: من سيحاسب من؟ هل يحق للصحافيين المحسوبين على المنظومة أن يسقطوا على الآخرين دروسا في الأخلاق، بينما بعضهم غارق في مستنقع الارتزاق والتواطؤ؟
إن هذا البلاغ، بنبرته المتشنجة، لا يعكس موقفا جادا أو رؤية إصلاحية، بقدر ما يعبر عن هلعٍ من واقع لم تعد أدوات الضبط القديمة قادرة على احتوائه. فالإعلام تغير، والجمهور تغير، ولم يعد المواطن ذلك القارئ “المؤطر”، بل صار فاعلا ومؤثرا في المشهد الإعلامي.
إذا أرادت الجمعية الدفاع عن الصحافة، فلتبدأ أولا بالنظر في مرآة ذاتها، فربما تكتشف أن العدو ليس في الخارج، بل بين أروقتها المترهلة
أليس من المُخجل أن يخرج علينا من أسس مدرسة التفاهة والقفز على أخلاقيات المهنة ببلاغٍ كُتب بلُغة الوصاية، وكأنهم أوصياء على مهنة الصحافة، وهم في الحقيقة أكبر كارثة حلّت بها؟ فهؤلاء الذين جعلوا من الصحافة مطيةً للوصول إلى مصالحهم الخاصة، يتقمّصون اليوم دور الشرفاء، ويذرفون دموع التماسيح على حرية التعبير، بينما هم أول من حاربها، ووأدها، وداس على مبادئها
تجدر الإشارة إلى أن هذه الجمعية جاءت لمحاربة المقاولات الصحفية الصغرى والمتوسطة، لتستولي على الدعم الموجه للصحف بكامله بحسب رقم المعاملات لا بحسب التاثير والقدرة على الانتشار ، ضاربة عرض الحائط مقتضيات الدستور الذي ينص على التعددية، في خرق واضح لمبدأ المنافسة. وما مطالبتها بالتشديد إلا في الحقيقة مطالبة ضمنية بمحاربة هذه المقاولات التي تؤثر في الرأي العام، خصوصا المقاولات الصغرى التي تمثل الإعلام الجهوي. فهم لا يريدون تنظيم المهنة، بل يريدون القضاء على فرص الشغل والهيمنة على الإعلام الجديد، ويخلطون الحابل بالنابل.
يتفق الجميع على ضرورة تنظيم المهنة وتحصينها، ولكن في إطار المشروعية، من خلال إجراء انتخابات لتجديد هياكل المجلس الوطني للصحافة، مع محاسبة الرئيس يونس مجاهد على فشله في ولايته الأولى، التي أضيفت لها ستة أشهر، ثم رئاسته للجنة المؤقتة لتسيير القطاع، مما أدى إلى تفاقم الفوضى منذ تأسيس هذه المؤسسة. وكما هو معلوم، فإن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، وبقاء نفس الأشخاص يعني تكرار سيناريو الفشل.
إذا كانت هذه الجمعية صادقة في بلاغها، فلتطالب أولا يونس مجاهد بعقد ندوة صحفية لتقديم الحساب، ثم تطالبه بنشر التقارير المالية، وأسماء الشركات التي أبرم معها الصفقات، وكذا نشر لائحة الحاصلين على البطاقات المهنية منذ التأسيس وإلى غاية 2025، والمستفيدين من البطاقات المجانية للقطارات.
إن كان في هذه الجمعية من لا يزال يمتلك ذرة من النزاهة، فليواجه الحقيقة بدلا من الاختباء خلف بيانات ركيكة تُكتب بلغة البكائيات..
كفى تضليلا، كفى متاجرة بمهنة أُرهقت من عبث المرتزقة والانتهازيين. فالصحافة ليست إقطاعية تُورَّث، ولا مائدة تُقسَّم بين الحلفاء. وإن كان لهذه الجمعية ذرة من الشجاعة والحياء فليحاسبوا أنفسهم قبل أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على المهنة. أما محاولات فرض الوصاية باسم “التنظيم”، فلن تكون سوى رقصة أخيرة على أنقاض ما تبقى من مصداقيتهم.

شارك هذا المحتوى