
الأنباء بوست / حسن المولوع
في ركنٍ من هذا الوطن، حيث لا كاميرات، ولا خطب رنانة، ولا حضور للوزير، هناك جبهة صامتة من الجنود الحقيقيين تُباد كل صباح. اسمها “مربو التعليم الأولي”. فهؤلاء الذين يحملون أرواح الأطفال بين أيديهم، ويعلّمونهم كيف ينطقون الحياة، يُعاملون كما تعامل الحثالة.
خارج دائرة اهتمام صناع القرار، يُذبح مربو التعليم الأولي، لا بالسكين، بل بالإهمال، وبأجور تُشبه الصدقات، وبمهام تفوق طاقتهم وقدرتهم، في ورش يُفترض أنه “ملكي”.
الملك نفسه أعطى للتعليم الأولي مكانته، ورسم له معالم الإصلاح. لكن الجمعيات التي أُوكل إليها تدبير هذا الورش، تحوّلت إلى ما يشبه الشركات الخاصة. تقتسم الميزانيات، وتوزع الغنائم، وتترك للمربين الفتات… بل أقل من الفتات لمن يبذلون أرواحهم كل يوم في أقسام أشبه بالزنازين التربوية.
من يُعلّم الأطفال في هذا البلد لا يُعامل كمربٍ، بل كعامل موسمي في ورش بناء. يُطلب منه أن يكون معلمًا، ومنظفا وممرضًا، وإداريًا، ومُدخل بيانات، وأحيانًا مهرّجًا، وأحيانًا مجرد ظل. عليه أن يُدخل بيانات الأطفال في “مسار”، أن يفحص أطوالهم وأوزانهم وأسنانهم، أن يُنظف القسم، أن يهدّئ بكاء الصغار، أن يدرّبهم على الحروف والألوان… ثم في آخر الشهر، يُكافأ بـ”السميك” أو أقل، وأحيانًا يُمنع عنه حتى هذا.
هل يُعقل أن يُقارن مربّو التعليم الأولي بمن يعملون في التعليم الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي؟ الجواب نعم، ولكن المقارنة هنا ليست في المهام، بل في المعاناة. لأن ما يُكابده المربّي في قسم تتراوح أعمار أطفاله بين أربع وخمس سنوات، لا يقوى عليه من يُدرّس مراهقين. فالفرق الوحيد هو أن المربّي يعمل في الظل، دون صوت، دون حماية قانونية، دون نقابة قوية، ودون أي اعتبار.
في الدول التي تحترم عقلها، يُعامل من يربّي الطفل كمن يربّي الوطن. أما هنا، فمن يُربّي الطفل يُربّى على القهر، على الإذلال، على الحُقن المسمومة لأجور لا تكفي ثمن الحليب لمن يعلّم الأطفال كيف ينطقون كلمة “حليب”.
يطالب المربّي بتنظيف الأقسام، وقياس أوزان الأطفال، وفحص أسنانهم، وملء بياناتهم في “مسار”، ثم يقولون له: ابتسم… فهذه وظيفة “نبيلة”! نبيلة لمن؟ لمن يأكلون الكعكة ويتركونه للحفر بين الألغام!
يتحدثون عن “ورش ملكي”… كأنهم يقولون لا تنتقدوا، الورش مقدس! ولكن هل رأيتم ورشًا ملكيًا يُدار بعقلية “دكان الحي”؟ فالجمعيات تسطو على المال العام، وتوزعه كما توزع قطع الحلوى في موسم عاشوراء، بينما المُربي يخرج كل مساء بجيبٍ فارغ وجسدٍ مكسور.
إن مربّي التعليم الأولي ليس موظفًا… بل شهيد ببطاقة تعريف. شهيد يُقاوم الغياب التام للعدالة، يُداري خيبته بابتسامة يُهديها للطفل، ويُخفي دمعته عن أعين لا ترى إلا الربح والخسارة.
أيها السادة المسؤولون: لا تتحدثوا عن المستقبل وأنتم تدمرون أول من يضع لبناته! لا تبيعوا الكلام الفارغ وتتركوا المربي في فقره ووجعه. لأن الطفل الذي يبدأ تعليمه في حجرة باردة، تحت رعاية مربٍ مهان، لن يكبر إلا ليُعيد إنتاج الذل.
التعليم الأولي ليس مرحلة… إنه المِعمار الأول للعقل المغربي. وها أنتم، تهدمون هذا المعمار بأيديكم… ثم تتساءلون لماذا هذا الوطن يُولد مكسورًا من المهد!
أي إصلاح هذا الذي يُبنى على ظهور المنهكين؟ أي مشروع ملكي هذا الذي يُترك في يد جمعيات تعبث به، تُسيّره كما تشاء، وتُقصي الكفاءات وتُقرّب الأتباع؟ أي منطق هذا الذي يجعل من يُعلّم أطفالنا أولى خطواتهم في الحياة، آخر من يُلتفت إليه؟
الطفل الذي يبدأ مشواره في حجرة باردة، تحت رعاية مربٍّ مكسور، لن يكون مشروع مواطن فاعل… بل مشروع يأسٍ مبكّر.
إن مربّي التعليم الأولي ليس موظفًا، بل شهيد حيّ. يبتسم في وجه الطفل، ويخفي دمعته عن الجميع. يشتغل بضمير، في بيئة لا ضمير لها. يقدم أسمى الرسائل، في أدنى الظروف.
فكفّوا عن بيع شعارات الجودة، وأنصتوا لصوت المعلمين الحقيقيين. أعيدوا للمربّي كرامته، وإلا فلا مستقبل لأي إصلاح.

شارك هذا المحتوى