
الأنباء بوست
مرة أخرى، يطل علينا بعض محترفي التبخيس ممن اعتادوا النفخ في الرماد وبث السواد في كل ما هو مضيء، ليهاجموا ندوة علمية وطنية وازنة، لم تنعقد بعد، ولم تُلقَ فيها كلمة، ولم تُطرَح فيها ورقة، ولم تُسجَّل فيها مداخلة واحدة… ورغم ذلك، تصدّرت صفحات بعضهم عناوين غاضبة، لمجرد أن البرنامج لا يتضمن أسماء نسائية.
وهنا، لا بد من وقفة صارمة مع هذا المنطق الأعوج الذي يقدّم الشعارات على الفكر، والانفعال على التحليل، والمظلومية المصطنعة على الحقيقة. فهذه الندوة، التي ينظمها الحرم الجامعي في إطار أكاديمي صرف، ليست حفلا دعائيا ولا لقاء سياسيا حتى تُحاك حوله نظريات الإقصاء والتهميش. إنها ببساطة محطة معرفية لتقييم تجربة وطنية في سياق العدالة الانتقالية، موضوع يستدعي الكفاءة والتخصص لا الشعارات الجوفاء.
فلنكن صرحاء: المغرب اليوم تجاوز بفضل دستوره ومؤسساته عُقد التمييز والتمثيل، ولم يعد النقاش حول الذكورة والأنوثة في المشهد العلمي يُغني أو يُثري. فما ينفع اليوم هو العقل، والكفاءة، والقدرة على التأثير العلمي، لا الضجيج الموجه من خلف الشاشات.
أليس من العبث أن يُهاجم اللقاء بسبب غياب أسماء نسائية، بينما يعلم الجميع أن الدعوة كانت موجهة لمؤسسات أكاديمية وخبراء مختصين؟ وأليس من المعيب أن تتحول هذه الندوة، التي تكرّس ذكرى مضيئة في عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله، إلى هدف للسهام المسمومة الصادرة عن عقول لم تتخلص بعد من راديكاليتها، وتلذذها في جلد الذات ومحاربة كل ما هو جميل؟
ثم لنسأل بوضوح: من كان له رأي علمي أو إضافة فكرية، فلماذا لم يتقدم بها؟ لماذا اختار التهجم لا التفاعل؟ أليس من الأولى أن نحضر لنناقش، لا أن نحكم ونجلد قبل أن نسمع أو نفهم؟ أليس من باب الوطنية أن نختلف داخل الفضاء الجامعي بالحجة لا بالمظلومية الصوتية؟
فيا للسخرية! ندوة أكاديمية تحتضنها كلية الحقوق بالجديدة، موجهة لخيرة الباحثين والخبراء الذين خبروا ملف العدالة الانتقالية، وجالوا دهاليز الحقيقة والمصالحة، تُتهم بالإقصاء والتحيز الجندري، لا لشيء سوى أن بعض المتطفلين على الفكر لم يجدوا لهم اسما فيها، فآثروا التهجم على الشكل بدل مناقشة الجوهر.
هل بلغ العمى الإيديولوجي بالبعض أن يُنصّبوا أنفسهم حرّاسا للتمثيلية، يُوزّعون صكوك الشرف والتنوير على من شاءوا، ويشهرون سيوف الاتهام في وجه كل ما لا يخدم أجنداتهم المتطرفة؟
كلا، إن ما يجري اليوم ليس دفاعا عن المرأة كما يُروّج، بل هو ارتداد إلى خطاب عقيم يرفض أن يرى في العلم سوى حصص تمثيلية، وفي الفكر سوى شعارات استعراضية، وفي الجامعة سوى ساحة لتصفية الحسابات السياسية والإيديولوجية.
ثم لنسأل بصراحة، ما الغرض من مهاجمة ندوة لم تنعقد بعد؟ أليس من الأجدر الانتظار إلى حين انعقاد اللقاء، سماع المداخلات، نقد الطرح، وتقديم البدائل؟ أم أن المسألة لا علاقة لها بالمضمون، بل بالهوى الشخصي والرغبة في إثارة الغبار حول كل ما هو مشرق؟
ندوة “عشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب: مسارات وتحولات”، هي لحظة علمية تحتفي بذكرى وطنية مجيدة، وتعيد تسليط الضوء على تجربة مغربية رائدة، بكل ما لها وما عليها، في ظل العهد الجديد، عهد القطائع مع ماضٍ مثقل، والانفتاح على مصالحة تاريخية عميقة. فبأي حق يتم الانقضاض على هذه اللحظة الوطنية الجامعة، وتحويلها إلى مناسبة للبكائيات الأيديولوجية الفارغة؟
ثم، منذ متى أصبح الهجوم على لقاء أكاديمي قبل انعقاده سلوكا مشروعا في عرف الديمقراطية؟ إنه أمر غير مسبوق في تاريخ النقاشات العلمية بالمغرب. لم نرَ من قبل من يهاجم ندوة قبل أن يسمعها، ولم نعرف أن النقد يُبنى على قوائم الأسماء بدل المحاور والأفكار.
هل أصبحت الوطنية تقاس بعدد النساء على الملصق؟ وهل نختزل المعرفة في صور؟ أم أن وراء هذا الهجوم نَفَسًا عدميًا متطرفا، يسعى إلى تعميم اللون الأسود، وتسميم الفضاء الجامعي تحت لافتة الدفاع عن حقوق لا يؤمن بها من يرفعها؟
لقد آن الأوان أن نقولها بوضوح: من أراد أن يكون له حضور في النقاش العلمي، فليأتِ بفكره، لا بظله؛ فليساهم، لا أن يهدم؛ فليُدْلِ برأيه من داخل القاعة، لا أن يغرد من جحر الإقصاء الذاتي.
إن هذا النوع من الهجوم، بهذه السرعة والحدة، وقبل حتى أن يُفتتح اللقاء، يؤشر على شيء واحد: أن هناك من لا يتحمل رؤية ما هو منير في المغرب، لأنه اعتاد العيش في الظلال، ولا يستسيغ النور.
لقد آن الأوان أن نطوي صفحة الهدم المجاني، وأن ننخرط جميعا في مغرب البناء، مغرب التنمية والكرامة والحرية. أما الذين ما زالوا أسرى أجنداتهم المتطرفة، فهم على هامش الحاضر، وخارج المستقبل.

شارك هذا المحتوى