
الأنباء بوست/ حسن المولوع
ما الذي تبقّى من النقابة الوطنية للصحافة المغربية حين يغيب عنها الصوت، والموقف، والكرامة؟ ماذا يتبقى من مؤسسة كان يُفترض أن تكون ضمير الصحافيين، وحصنهم الأخير، حين تتحول إلى دكان صغير تُوزّع فيه بطاقات حفلات على المحظوظين، وتُغلق فيه الأبواب في وجه من يكشف الفساد، ويقاتل من أجل الشفافية وحماية المال العام؟
عبد الكبير أخشيشن، الذي يتقلد صفة رئيس النقابة، لا يُرى ولا يُسمع إلا في المناسبات التي تمنح امتيازات شخصية أو تتيح بناء علاقات ظرفية. فالرجل، الذي لا يتردد في الترويج لعلاقة قرابة مزعومة تربطه بالوزير السابق أحمد أخشيشن، يتصرف وكأن هذا النسب – الذي لم يؤكده أحد ولم ينفه أحد – يشرعن له الحق في احتكار القرار، والتسيير الفردي، والتحكم في مؤسسة يفترض أنها جماعية، تعددية، وتمثل الصحافيين كافة، لا عائلة واحدة ولا إسما عائليا يُشبه اسم وزير سابق.
ولعلّ ما يثير السخرية أكثر من أي شيء آخر هو ما يشبه المشهد المقتبس من الفيلم المصري الشهير “معالي الوزير”، حيث يُعيّن البطل، الذي جسّده الراحل أحمد زكي، وزيرا بالخطأ فقط لأن اسمه مطابق لاسم المرشح الحقيقي، فتحوّل الخطأ الإداري إلى مفارقة سياسية سوداء. ويبدو أن عبد الكبير أخشيشن يعيش، على طريقته، نفس الحبكة، لكن بدون كوميديا، وبدون حضور فني، وبدون كاريزما. فقط اسم عائلي يُستثمر بطريقة غامضة، لاحتلال منصب لا تؤهله له لا كفاءته المهنية، ولا سلوكه النقابي، ولا تاريخه في الدفاع عن المهنة.
ففي واقعة غير مسبوقة، حصل رئيس النقابة على 12 بطاقة دعوة لمهرجان “موازين” باسم النقابة الوطنية للصحافة المغربية. اثنا عشر امتيازا تم الحصول عليها باسم مؤسسة مهنية، دون نقاش داخل المكتب التنفيذي، ودون إعلان عن معايير توزيعها، ودون معرفة من سيحصل عليها، ودون إخبار منخرطي النقابة، مما يكرّس منطق الزبونية والامتياز الشخصي ويُحوّل النقابة إلى ملحقة ترفيهية، بدل أن تكون هيئة مهنية صامدة ورافضة لثقافة الريع والتبعية.
لكن الفضيحة التي كشفت ما هو أعمق من ذلك، هي رفض عبد الكبير أخشيشن منح قاعة النقابة الوطنية للصحافة المغربية لعدد من الجمعيات الحقوقية والمدنية، لتنظيم ندوة صحافية حول قضايا الرشوة والفساد. علما أن تلك الجمعيات سبق أن تلقت موافقة رسمية من كتابة النقابة، كما أن القاعة نفسها يتم تمويلها من ميزانية وزارة الاتصال، بما في ذلك كلفة الكراء، وفواتير الماء والكهرباء والهاتف والأنترنت. ومع ذلك، جاء الرفض المفاجئ بذريعة واهية ، وللإشارة ان القاعة عند منحها لمن رضي عنهم هذا النقابي فإنهم مطالبين بأداء “واجبات التنظيف والتوضيب”، بفرض مبلغ 500 درهم .
وقد أصدرت 23 جمعية من مكونات المبادرة المدنية – من بينها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ترانسبرانسي المغرب، نقابة المحامين، والعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان – بلاغًدا ناريا للرأي العام، تندد فيه بتراجع النقابة عن الموافقة، وتصف هذا السلوك بالانحدار المؤسسي، وتذكّر بتاريخ النقابة التي كانت يوما ما حاضنة للنضال الحقوقي والمدني والديمقراطي، قبل أن تتحول، تحت قيادة أخشيشن، إلى مؤسسة صامتة بلا هوية.
لكن الأدهى أن رئيس النقابة، الذي وُجّهت إليه هذه الانتقادات الجارحة، اختار الصمت المريب، ورفض الرد أو التوضيح، ولم يصدر أي بلاغ دفاعي يحمي صورة النقابة أو يوضح ملابسات القرار. إذ تصرّف كالنعامة التي تدس رأسها في التراب، وتنتظر مرور العاصفة، ولو كانت تلك العاصفة تقتلع تاريخ مؤسسة بأكملها.
والمفارقة الكبرى أن الفرق بين عبد الكبير أخشيشن وسلفه عبد الله البقالي يشبه الفرق بين مؤسسة تحترم نفسها، وأخرى تعيش على أنقاضها. فالبقالي، رغم ما وُجه إليه من انتقادات، كان يستشير المكتب التنفيذي، ويصدر بلاغات مسؤولة، ويتفاعل مع الرأي العام، ولا يتهرّب من المواجهة. بل إنه حين رفض، في وقت سابق، منح القاعة لعبد العالي حامي الدين، سارع إلى إصدار بلاغ يشرح فيه القرار حفاظا على شفافية المؤسسة وسمعتها. أما خلفه، فقد اكتفى بالانكماش والتواري، حين واجه بلاغا أشد قسوة وأوسع انتشارا.
فهل يحق لرجل لا يملك حتى الجرأة على الرد أن يستمر في قيادة النقابة الوطنية للصحافة المغربية؟ هل من المقبول أن تكون مؤسسة بهذا الثقل تحت رحمة شخص لا يرى فيها سوى وسيلة للاستفادة الشخصية، ولعب دور المتفرج على قضايا الوطن والمهنة؟ هل نحتاج بعد الآن إلى دليل إضافي على أن النقابة، في هذا العهد البائس، لم تعد نقابة؟
لقد سقط القناع. وتبيّن أن عبد الكبير أخشيشن لا يمثل الصحافيين، ولا يتحدث باسمهم، ولا يعبّر عن طموحاتهم. ما يمثله هو منطق المصلحة، ومنظومة الامتياز، وثقافة الترضيات. وما يعبر عنه هو الصمت والتواري، والاختباء في الظل حين يُطلب الموقف، والمواجهة، والشجاعة.
النقابة، التي أغلقت أبوابها في وجه من يُدافع عن المال العام، فتحت جرحا غائرا في ضمير كل من ما زال يؤمن بأن الصحافة حرية ومسؤولية ونضال.
وإذا كان التاريخ لا يرحم، فإن ذاكرة الجسم الصحافي لن تغفر هذه الإهانة. لن تنسى أن رجلا بلا بيان، ولا مواقف، ولا كرامة نقابية، جلس على كرسي أكبر من قامته، وأصغر من مسؤولية نقابة وطنية.

شارك هذا المحتوى