
الأنباء بوست/ حسن المولوع
تقدم عبد الله البقالي بخطى ثابتة نحو قاعة الجلسات، مدركا تماما حساسية اللحظة وثقل المسؤولية الرمزية التي يحملها حضوره في محاكمة الصحافي حميد المهدوي أمام وزير العدل عبد اللطيف وهبي. فالرجل الذي خبر دهاليز الصحافة المغربية لأكثر من ثلاثة عقود، وارتقى في هرم تمثيلياتها المهنية الدولية والوطنية، يدرك أن وجوده في هذا الموعد القضائي ليس تفصيلا عابرا في مشهد الإعلام المغربي المتقلب.
حضور البقالي لم يكن وليد الصدفة ولا بدافع الفضول الشخصي، بل جاء محملا برسائل متعددة المستويات في لحظة دقيقة تتداخل فيها أسئلة حرية الصحافة بمخاوف تراجع منسوب الحريات عموما في المملكة. فالبقالي، الذي شغل رئاسة النقابة الوطنية للصحافة المغربية لولايتين، ويشغل اليوم مواقع وازنة داخل الفيدرالية الدولية للصحفيين، واتحاد الصحفيين العرب، والمجلس الوطني للصحافة، واللجنة المؤقتة لتدبير قطاع الصحافة والنشر، يدرك ثقل الكلمة، وحساسية الحضور في قاعة يناقش فيها مصير زميله الصحافي الذي يواجه واحدة من أصعب المحاكمات ذات الطابع المهني-السياسي في المغرب.
وإلى جانب موقعه المهني الوازن، يكتسي وجوده بعدا سياسيا لا يقل أهمية، فهو أيضا قيادي في المكتب التنفيذي لحزب الاستقلال، أحد الأحزاب المشكلة للحكومة الحالية التي يتولى فيها عبد اللطيف وهبي وزارة العدل. فهذه التقاطعات المعقدة تمنح مشهده داخل المحكمة بعدا أعمق من مجرد المساندة الرمزية، وترسم خريطة دقيقة لطبيعة التوازنات التي تحيط بالقضية من مختلف زواياها السياسية والقضائية والمهنية.
لكن بالرغم من هذه المواقع المتداخلة، حرص البقالي على أن يكون حضوره بعيدا كل البعد عن منطق التأثير أو الضغط على القضاء، بل اتسم أداؤه داخل القاعة بالهدوء والتركيز، مع تركيز عميق على كل كلمة تتردد بين هيئة المحكمة وأطراف المرافعة. وهو، في هذا السياق، يقدم صورة للمناضل المهني الذي يفهم الفرق بين الدفاع عن حرية التعبير واحترام السلطة القضائية، في انسجام مع مبدئه المعروف: “النضال من داخل المؤسسات”.
في خلفية هذا الحضور الصامت، تختبئ تجارب شخصية مؤلمة عاشها البقالي نفسه حين كان قبل سنوات هدفا لمتابعة قضائية بادر إليها وزير الداخلية السابق محمد حصاد على خلفية مقال صحافي . تجربة ساهمت في صقل وعي الرجل بحدود المعركة المفتوحة بين السلطة والصحافة، وأكسبته حساسية خاصة تجاه كل ما يمس بحرية التعبير والصحافيين في المغرب.
وقد كان لافتا، خلال الجلسة التي دامت أكثر من 13 ساعة متواصلة، أن البقالي تابع بدقة كافة أطوار الاستنطاق والأسئلة المتبادلة بين ممثل النيابة العامة ودفاع وزير العدل من جهة، وبين الصحافي حميد المهدوي ودفاعه من جهة أخرى. ورصد المتابعون انطباع البقالي الذي لاحظ أن المهدوي التزم خلال أجوبته بالقواعد المهنية الأساسية التي تضمن له مشروعية العمل الصحافي في حدود البحث عن المعلومة، واستقصاء المعطيات المتعلقة بالشأن العام.
بل إن مرافعة الدفاع عن المهدوي جاءت حسب تقدير الحاضرين دقيقة في تفنيد ادعاءات الطرف المدني والنيابة العامة، مع تركيز خاص على أن جوهر القضية يتعلق بالنشاط الصحافي في إطار حرية التعبير وليس في سياق الجريمة الجنائية. وهو ما برز حين أحرج دفاع المهدوي خصومه بإثارة غياب أي تحقيق مستقل من طرف النيابة العامة في التسجيل الصوتي الشهير المنسوب لوزير العدل، وعدم التحقق من صحة المعطيات المتعلقة بمصدر السيارة الفاخرة التي حصل عليها وهبي كأتعاب عن ملفات نيابته عن سيدة الأعمال هند العشابي.
وفي لحظة مفارقة تعكس رمزية الحدث، بدا وكأن حضور البقالي جاء ليحسم بشكل رمزي على الأقل النقاش الدائر منذ سنوات بين معسكري “الصحافة التقليدية” و”الإعلام الرقمي”. فالرجل الذي قاد أهم نقابة للصحفيين المغاربة خلال فترتين معقدتين من تاريخ المهنة، وجد نفسه أخيرا يخوض تجربة جديدة كليا في عالم البودكاست عبر قناته الشخصية، مقدما محتوى تحليليا استقطب احترام المتابعين حتى من معارضيه ، في دلالة على أن التجديد المهني ليس حكرا على جيل معين بقدر ما هو رهين بالقدرة على التجاوب مع تحولات التكنولوجيا.
تجربة البودكاست التي يخوضها البقالي منذ أسابيع لم تمر دون ملاحظة في الأوساط المهنية، إذ اعتبرها البعض رسالة مفادها أن الصحافة اليوم تخوض معارك وجود جديدة في عالم منصات التواصل والمحتوى الرقمي، حيث تنعدم الحدود الصلبة بين الصحافة التقليدية والممارسات الرقمية الحديثة.
وفي خلفية هذا المشهد كله، تعكس قضية المهدوي التي ظلت مستمرة طيلة 13 ساعة من المرافعات المتواصلة صورة معقدة لمآلات حرية الصحافة في المغرب. ففيما يرى المراقبون أن مناخا عاما من التردد بات يلف المشهد الحقوقي في المغرب، تظهر رمزية حضور عبد الله البقالي لتقول إن معركة الصحافة لم تنته بعد، وإن هناك من داخل الجسم المهني من لا يزال مستعدا لوضع كل ثقله دفاعا عن استقلال المهنة، حتى في أعتى لحظات الاختبار السياسي والقضائي.

شارك هذا المحتوى