
الأنباء بوست/ حسن المولوع
في تصريحاته الأخيرة، بدا السيد حسن فرحان، رئيس وحدة قضايا الصحافة برئاسة النيابة العامة، وكأنه يسعى لتحديد “نطاق” ممارسة الصحافة التي تستفيد من الحماية القانونية، متناسياً أن اختصاصه كفقيه في القانون لا يمنحه الأهلية للحديث بعمق حول الصحافة وأجناسها وقضاياها. فالصحافة ليست مجرد نصوص قانونية تُطبق بجمود؛ بل هي ميدان حيوي وفاعل يتطلب فهماً واسعاً وخبرةً ميدانية، لا يمكن أن يمتلكها إلا من يمارس هذه المهنة ويدرك خباياها، وهي خبرة ليست في متناول “قارئ” قانوني، مهما كانت براعته النظرية.
لعل أبرز ما يغيب عن ذهن السيد فرحان هو حقيقة الواقع الإعلامي المشوه بسبب تدخلات الأحزاب السياسية، التي عاثت في قطاع الصحافة والنشر فساداً. فالمجلس الوطني للصحافة، الذي يُفترض أن يكون هيئة مستقلة تحمي حقوق الصحفيين، بات اليوم خاضعاً لنفوذ حزبي صارخ. إذ نجد أن حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يسيطران على مفاصل هذا المجلس، ويستغلان مناصب أعضائهما، عبد الله البقالي ويونس امجاهد، للتحكم بمنح أو منع البطاقة المهنية حسب الأهواء، ما يفتح المجال لارتكاب انتهاكات صارخة ضد الصحفيين. فمتى انتقد صحفيٌ حزب الاستقلال أو شخصية مثل البقالي، يجد نفسه محرومًا من البطاقة المهنية، والتي يُفترض أن تمنح وفق معايير مهنية بحتة، لا استناداً إلى مزاج سياسي متقلب. وهذا لا يقتصر فقط على القرارات الفردية، بل يتعدى إلى محاولة تشريع نظام خاص للحصول على بطاقة الصحافة المهنية، وهو تشريع غير قانوني لأن سن القوانين من صلاحيات البرلمان فقط.
وهنا نسأل السيد فرحان، كمسؤول قضائي، ما رأي القانون في استغلال السلطة والنفوذ لتحقيق غايات شخصية؟ وإذا كانت النقابة الوطنية للصحافة المغربية نفسها قد طالبت بسحب هذا “النظام الخاص”، فهل يمكننا اعتبار ما فعله هذا الثنائي، البقالي وامجاهد، استغلالاً فاضحاً للنفوذ؟ ألا يعد مثل هذا الوضع تلاعباً بمصير الصحفيين واستغلالاً يضرب في عمق أخلاقيات العمل الصحفي؟
ثم تأتي تصريحات السيد فرحان لتقلل من شأن المحتوى الذي ينشره الصحفيون على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصفه بالنشر الشخصي، وكأن الصحفي يفقد صفته المهنية حينما ينشر على الإنترنت. وهذا تفسير ساذج؛ فالمادة 2 من القانون رقم 88.13 واضحة تماماً، حيث تعرّف الصحافة في الفقرة الأخيرة من التعريف بأنها كل وسيلة لنشر أو بث المحتوى للعموم “بأي دعامة كانت”، وهذا يعني أن الصحفي يظل صحفياً سواء نشر في صحيفة ورقية، أو على مواقع التواصل، أو في فيديوهات على الإنترنت، لأن الجمهور يعرفه بصفته المهنية. والصحافي دوره ليس محدداً في الزمان والمكان، مثل القاضي الذي لا يمكنه ممارسة القضاء إلا في المحكمة التي تم تعيينه فيها أو المحامي الذي لا يمكنه ممارسة الدفاع إلا أمام المحكمة، وقِس على ذلك مهنًا أخرى.
وفي سياق دفاعه عن القانون الجنائي، أشار السيد فرحان ضمنيًا إلى قضية الصحفي حميد المهدوي، ناسياً أن هذا الأخير يحمل صفة “مدير نشر” عبر تصريح رسمي صادر عن النيابة العامة نفسها. وصفته القانونية كناشر تظل سارية بحكم القانون. فكيف تقر النيابة العامة بهذه الصفة ثم تعود لمقاضاته بالقانون الجنائي؟ ألا يعني هذا تضارباً بين الإجراءات وتناقضاً قانونياً صارخاً؟ أين هي قاعدة “القانون الأصلح للمتهم” التي يعرفها جيداً السيد فرحان؟ بل وأين قاعدة “الخاص يعقل العام” التي تنص بوضوح على أولوية تطبيق قانون الصحافة والنشر في مثل هذه القضايا؟
وبينما يتحدث السيد فرحان عن حرية الصحافة بموجب الفصل 28 من الدستور، يبدو أنه يختزل هذه الحرية في نصوص جامدة، دون أن يفهم أن الصحافة مهنة تلامس ضمير المجتمع وتواكب همومه، ولا يمكن حصرها في حدود القانون الجنائي أو تركها عرضةً لاستغلال ذوي النفوذ.
إن الصحافة ليست وظيفةً تنتهي في مكان وزمان معينين؛ بل هي رسالة مستمرة تعبر عن صوت المواطن وحقه في معرفة الحقيقة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُعامل كأي مهنة أخرى مقيدة بجدران المحكمة أو بتصريح محدد.
وهنا يُثار تساؤل آخر حول موقف السيد فرحان من المحتوى الرقمي الذي أصبح متفشياً عبر قنوات اليوتيوب وتطبيقات مثل تيكتوك، والتي احترفت بعض حساباتها نشر محتوى يسيء للأخلاق العامة ويبتذل القيم المتعارف عليها في مجتمع إمارة المؤمنين، بل ويخالف الهوية المغربية. فأين دور النيابة العامة في محاسبة قنوات “روتيني اليومي” وغيرها من الحسابات التي تروج للبذاءة وتغذي الأذواق السطحية، وأخرى تحترف التشهير باسم الدفاع المفترى عليه عن الوطن وتصنيف الناس بين خائن وبين الوطني، بينما تتوجه الرقابة القوية نحو الصحفيين الناقدين أو المتضامنين مع قضايا المجتمع؟
تصريحات السيد حسن فرحان، رغم قناع “الحيادية” الذي يتخذه، ليست سوى خطوة أخرى في مسار تكميم الأفواه ومحاولة إخضاع الصحافة لسلطة قانونية لا تراعي الخصوصية المهنية للصحفيين، وتتناسى أن الصحافة هي حق للمجتمع بأكمله وليست مجالاً للرقابة أو تضييق حرية التعبير. في الوقت الذي تتغاضى فيه النيابة العامة عن المحتوى المسيء والمنحط، نجدها تتشدد على الصحفيين الجادين، مما يجعلنا نعيد النظر في الدور الحقيقي للقضاء في حماية حرية التعبير وتكريس مهنة الصحافة كمرآة للمجتمع ومراقب نبيل للسلطة.

شارك هذا المحتوى