الأستاذ نور الدين الرياحي
قد كنت قد استأذنت بما يمليه واجب التحفظ من استاذي إدريس الضحاك في وقت سابق أن أسرد قصة بعد إدارة المعهد عن قاعات محاضراته و ناديه و جعلها اقرب الى شارع المهدي بن بركة منها إلى ما وراء المسابح و الملاعب الرياضية و المطاعم، إذ من المفروض أن يكون المدخل بعيدا عن صخب الشوارع و حركة المرور كما أن قواعد الهندسة اليوم قلما تجعل الإدارة في المداخل خصوصا عندما تكون شاسعة و قد أذن لي آنذاك مشكورا على ذلك في تضمينها اما في مجلة القضاة أو المذكرات خصوصا و هو الوحيد الذي يعرف اسرارها و التي لا يعرفها القضاة من اعلى الى اسفل هرم الا من رحم ربك رغم انهم تخرجوا من هذا المعهد .
ترجع القصة إلى سنة 1977عندما عين الاستاذ إدريس الضحاك مديرا عاما للمعهد بعد أن مارس مهامه بديوان وزير العدل آنذاك و قد ارتأى بعد نظره أن يكون للقضاة معهدا خاصا بهم يتكونون فيه و يصبح فيما بعد عنوانا لتخرجهم إلا أن ظروف الجفاف التي كان يمر بها المغرب و التي استدعت اجراءات تقشفية كانت لا تسعف الحكومة في تحقيق هذا الترف و كان لا يد لصاحب المقولة الشهيرة و التي غالبا ما كنت انا نفسي انقلها عنه عندما كنت مدرسا بنفس المعهد بناء على أمر مولوي لجلالة الملك المغفور له الحسن الثاني عندما طلب من وزيره في العدل أن أدرس فن المرافعات للقضاة بعدما تابع مباشرة إحدى مرافعاتي في قضية مشهورة في تسعينات القرن الماضي وهنأني عليها جلالته رحمه الله .
و كنت أردد مقولة ذ إدريس الضحاك على القضاة المتمرنين :
إن الأفكار تأتي بالمال و المال لا يأتي بالفكر .
و فعلا فقد استطاع بإيمانه بهذه المقولة أن يغتنم الفرصة لمشروع لبناء منزل وظيفي قديم في طور الإصلاح لمدير السجون التي كانت تابعة لوزارة العدل و اظنه المرحوم الاستاذ المالقي و الذي تم هجره و دق باب الوزير المكلف من أجل طلب منحة خاصة للبناء أسوة بباقي المعاهد للأطر المغربية و ما شجع الوزير أن الاستاذ الضحاك اقنعه بأن المنحة سوف تكون جد هزيلة لان البناء متواجد كل ما في الأمر ينبغي فقط ترميمه و هو ما لاحظته طبعا اللجنة الوزارية الامرة بالصرف كما أن اليد العاملة سوف تكون مكونة من السجناء المتطوعين و التجهيز من ميزانية وزارة العدل .
إلا أنه بمجرد الموافقة على المنحة الهزيلة التي لم تتجاوز سبعين مليون سنتيم أصدرت تعليمات من أجل وقف جميع مخططات المخطط الخماسي و إرجاعها إلى الخزينة العامة نتيجة حالة التقشف التي أعلن عنها .
لكن الفكر مرة أخرى سوف يأتي بالمال ذلك أن الاستاذ إدريس الضحاك و قد تحول إلى مقاول و كان قد بدأ الأشغال بأعمال السجناء المتطوعين و اعتبر ذلك بمثابة بداية في المشروع و جدير بالذكر أن مقتضيات التقشف لم تسر على المشاريع التي كانت في طور الإنجاز مما جعل القضاء ينفرد بهذا الامتياز من أجل بناء معهده.
و بما أن الأمر يتعلق بورشة ترميم أحد الدور الوظيفية فقد كانت مصممة على الشارع بئر قاسم قبل تسميته المهدي بن بركة و أن المكاتب أصلها في الحقيقة صالونات قديمة معدة للسكنى فقد أصبحت الدار إدارة مع لمسات و تغييرات مهندسها الفعلي مدير المعهد .
و أصبح ذلك المكتب البهيج الذي تم فيه استقبال ضيوف المكرم الاستاذ عبد الواحد الراضي بكتابته الخاصة و قاعة الاجتماع و أولى قاعات الدراسة التي كنا ندرس فيها و هي مغطاة بالسقف الاسمنتي الصناعي عوض السقف المسلح الذي لم تكن الميزانية آنذاك تسعف لتسقيفه.
و حدث أن كنا طلبة في المعهد و أقيمت إحدى الندوات و حضرها المرحوم الاستاذ النقيب المعطي بوعبيد و قبيل انتهائها نزلت أمطار الرحمة و اضطر المنظمون إلى الاستعانة بأواني بلاستيكية للتعرض إلى قطرات الماء التي كانت تنزل بغزارة من السقف مما أحرج الوزير و ووافق على منحة اسثنائية من أجل تزفيت قاعة المحاضرة و لعبت أمطار الخير في تليين قلوب الساهرين على ميزانية القضاء .
و هو فقط مثال تضربه للاجيال المعاصرة و حتى للمسؤولين الذين ينعمون بميزانيات التسيير التي لا تتطلب اليوم التفكير في الحيلولة دون تسرب المياه من السقوف و كذلك إعطاء مثال على جهابذة الحيثياث و القامات القضائية التي صنعت أسس نظام قضائي معاصر بكل مقومات سلطته في صمت و نكران ذات بل ترفع حتى إلى نسبة أعمال عظيمة كهذه إليها تخرجت و أخلصت لهذا المعهد البهيج بقاعات محاضراته و ملاعبه و مسابحه و مقرات جمعيات قضاته و موظفيه و مقاصفه و مساجده و ملحقاته و الذي استطاع أن يصمد أربعين سنة قبل التفكير في المعهد الجديد الذي اقترب تدشينه و تلك قصة أخرى.
شارك هذا المحتوى