
الأنباء بوست / حسن المولوع
قضية فساد القرض العقاري والسياحي ليست مجرد ملف قضائي معلَّق، بل هي مرآة واضحة لخلل بنيوي يضرب في عمق العدالة، وتؤكد أن مبدأ المحاسبة في المغرب لا يزال انتقائيا، خاضعا لمزاج السياسة وتوازنات السلطة. فحين ورد اسم خالد عليوة، المدير العام السابق لبنك القرض العقاري والسياحي، في تقارير صادمة صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، ظنّ كثيرون أن لحظة الحقيقة قد حانت، وأن من عبثوا بالمال العام سيُسألون عمّا فعلوه.
لكن ، في بلادٍ تعرف كيف تُصنّف الحيتان الكبيرة عن باقي الأسماك، وتُجيد فن تدوير المسؤوليات كما يُدَوَّر خشب الأرز بعد احتراقه، تذبل قضايا الفساد على الأوراق، وتتعفّن في أدراج المحاكم، ثم لا تموت… بل تدخل في نوم تقني طويل، يُغذّيه القانون حينًا، والمصالح العليا أحيانًا كثيرة.
بدأت الحكاية مع حكومة “الإصلاح في ظل الاستقرار”، التي بشّرت المغاربة بمحاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة. ومع أولى شهور تولي مصطفى الرميد حقيبة العدل، جرى تحريك ملفات كانت محنطة في رفوف النسيان، وكان أبرزها ملف خالد عليوة. ففي فبراير 2012، أُحيلت قضية القرض العقاري والسياحي على القضاء، بالتوازي مع فتح ملفات فساد أخرى، أبرزها ملف عبد الحنين بنعلو، في حملة بدا أنها تعلن ميلاد عهد جديد.
وفي مشهد غير مسبوق، اعتُقل عليوة يوم الخميس 29 يونيو 2012، وجرى إيداعه سجن عكاشة رفقة متهمين آخرين في ملف فساد مالي ضخم.
بدا المشهد صارما، مهيبا، وملأ الصحف بالعناوين الكبيرة. لكن، كما جرت العادة في البلاد، سرعان ما تبخرت الجدية، وبدأت لغة التأجيل تلتهم الزمن القضائي ببطء، إلى أن تحوّل الملف إلى ما يشبه متحفًا قضائيًا مفتوحًا للفرجة.
تُهم ثقيلة طالت الرجل، صاغها المجلس الأعلى للحسابات بلغة صريحة لا تحتمل التأويل: تبديد أموال عمومية، اقتناء تجهيزات فاخرة على حساب مؤسسة عمومية، تسيير بترف، وتفويتات مشبوهة. ورغم وضوح الأرقام والتفاصيل، ظلّ القضاء مترددًا، بطيئًا، عاجزًا أو متواطئا، لا فرق.
خرج خالد عليوة بالفعل من السجن لحضور مراسيم دفن والدته، لكنه عاد إلى السجن فور انتهاء تلك المراسيم. بعدها تقدّم بطلب للإفراج المؤقت، إلا أن قاضي التحقيق رفض طلبه في البداية. وبعد استئناف هذا القرار، قررت الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف منحه الإفراج المؤقت قانونيا. ومنذ ذلك الحين، بقي ملفه جامدا دون أي تحرك فعلي نحو استكمال الإجراءات القضائية، مما يعكس حالة الجمود التي طغت على القضية، و دون اتخاذ إجراءات جديدة تفضي إلى محاكمة عادلة وناجزة، مما عزّز حالة الجمود القضائي التي دفعت بالقضية إلى حافة السقوط بالتقادم.
مرت أكثر من اثني عشر عاما على اعتقاله، دون أن يصدر في حقه حكم نهائي، لا بالبراءة ولا بالإدانة. مجرد تأجيلات روتينية، تُدار كما لو أن الهدف لم يكن المحاكمة، بل الاستهلاك الإعلامي المرحلي، ثم ترك الملف يتآكل بصمت.
وهنا، يصبح السؤال القانوني مشروعا: هل ستسقط الدعوى العمومية بالتقادم؟ والجواب، وفق القانون الجنائي المغربي، نعم… إذا توفّرت شروطه. فالفصل الخامس من القانون الجنائي ينص على أن الدعوى العمومية في الجنايات تتقادم بمرور خمس عشرة سنة، تبتدئ من تاريخ ارتكاب الجريمة، ما لم يطرأ ما يقطع هذه المدة من إجراءات قضائية. وفي حالة عليوة، فإن الإجراءات القضائية التي تم اتخاذها عام 2012 (الاعتقال، المتابعة، إلخ) قد تكون قطعت حبل التقادم، لكن السؤال الآن: هل تم تجديد هذه الإجراءات لاحقًا؟ وهل اتُخذت التدابير القضائية الكافية للحيلولة دون سقوط الدعوى؟
إن لم يكن ذلك قد حصل، فإننا أمام احتمال واقعي بأن يُغلق الملف نهائيا بعد بضع سنوات أو حتى أشهر، لا لبراءة المتهم، بل لأن الزمن القانوني استهلك نفسه، ولأن العدالة نسيت أن تُجدد حضورها في قاعة المحكمة.
هي إذن “عدالة بالتقادم”، لا بعدالة جوهرها الحقيقة والمساءلة. عدالة تعرف جيدًا أن الزمن حليف المتهمين إن كانوا من العيار الثقيل. عدالة تحكم على بائع خبز بالحبس النافذ لأنه لم يُصدر وصلاً ضريبيًا، ثم تتلكأ أمام من تلاعب بملايين الدراهم من المال العام.
خالد عليوة لم يُجرَّد من معاشه، ولا من أوسمته، ولا من رمزيته داخل الدولة. بل يطل بين حين وآخر، وكأنه فوق الشبهات. خرج من السجن كما دخل، وسط صمت شبه رسمي، وعطالة قضائية تُشبه في رتابتها عفوًا ضمنيًا.
تتحول قضية مثل هذه من لحظة حساب إلى لحظة خيبة، ومن وعد بالمحاسبة إلى تمرين على النسيان. فحين تفشل الدولة في محاكمة كبار مسؤوليها، وتسمح بإفلاتهم من العقاب، فهي لا تخسر ملفًا واحدًا، بل تفقد ما تبقى من ثقة الناس في إمكانية تحقيق العدل.
وهكذا تنتهي القصة، أو تكاد، بلا نهاية. لا حكم، لا تبرئة، لا إدانة. فقط تقادم، وأوراق صفراء، وتاريخ يُكتب كما يليق بهذا الوطن المقهور: بكثير من الرماد، وقليل من العدالة.
وللتذكير فقط، فإن خالد عليوة ليس اسمًا عاديًا في المشهد السياسي المغربي، بل أحد أبناء المدرسة الاتحادية العتيقة. انتمى مبكرًا إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وراكم حضوره السياسي والإداري داخل الدولة خلال حقبة التناوب. تولى منصب وزير منتدب لدى الوزير الأول مكلف بالشؤون الاقتصادية والعامة في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، ثم أصبح وزيرًا مكلفًا بتحديث القطاعات العامة في عهد إدريس جطو، قبل أن يُعيَّن مديرًا عامًا لبنك القرض العقاري والسياحي سنة 2004، في إطار ما سُمّي آنذاك بسياسة “تدوير النخب” داخل المؤسسات العمومية الكبرى.
إنّ أخطر ما في قضية خالد عليوة، ليس فقط ما تكشفه من اختلالات في تدبير المال العام، بل ما تفضحه من اختلال أكبر في تدبير العدالة نفسها. حين يصبح التقادم هو الحكم الوحيد، ويصير الزمن هو القاضي الأسمى، فاعلم أن الدولة قد اختارت أن تضع القانون في خدمة النسيان، لا في خدمة الإنصاف.
في بلد يُحاكم فيه البسطاء بسرعة البرق، ويُتركون في الزنازين بسبب لقمة خبز أو تهمة واهية، بينما تُغلق الملفات الثقيلة ببطء مدروس، وتذوب فيها الأدلة كما تذوب الثلوج في شمس الصيف، لا يمكن الحديث عن عدالة… بل عن صفقة طويلة الأمد بين السلطة والصمت.
فلتُطوَ إذن صفحات الملف كما طُويت من قبل ملفات، ولتبقَ الجملة الأخيرة محفورة في ذاكرة هذا الوطن: في المغرب، من سرق كثيرًا، حظي بالصفح… ومن سرق قليلًا، نال العقاب.

شارك هذا المحتوى