
الأنباء بوست/ حسن المولوع
أصبح التهجم على رموز الدولة شعارا لمن يبحث عن بطولة زائفة، كما تحول ادعاء الدفاع عنها إلى تجارة مربحة في سوق الوطنية المشوهة. ففي هذا الزمن الرقمي، لم يعد بعض رجالات الدولة، خصوصا المسؤولين في الأجهزة الأمنية، مجرد شخصيات اعتبارية تؤدي مهامها في صمت، بل تحولوا إلى سلعة رائجة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يدفع المتابعون ثمن الإثارة بينما يُحرمون من الحقيقة. أما الإعلام الجاد، فهو إما غائب أو مُغيَّب، لأن وجوده لا يخدم الحسابات الصغيرة لمن يريدون أن يبقى الضجيج سيد الموقف. فلم يعد الهدف كشف الحقيقة أو الدفاع عن مؤسسات الدولة كما يدعون ، بل أصبح الأمر لعبة مصالح تحكمها حسابات شخصية وانتهازية مفضوحة.
وسط هذا الفضاء المشحون، يتخذ بعض مغموري “اللايفات” وأصحاب القنوات اليوتيوبية، الذين يقودون خلايا ترهيبية إلكترونية، من المؤسسة الأمنية وسيلة لخلق الصراعات وتأجيج الأجواء تحت ذريعة الدفاع عنها، في حين أنها مؤسسة قائمة بذاتها، تمتلك من القوة والهيبة ما يجعلها في غنى عن أصوات غوغائية تحاول تصويرها وكأنها كيان هش يحتاج إلى حماية من رعاع الشبكات الاجتماعية. بل إن هذا النوع من “المدافعين” يقدم خدمة سيئة للمؤسسة الأمنية، إذ يزج بها في حروب كلامية لا فائدة منها، ويضعها في موقف يوحي بأنها بحاجة إلى أتباع يدافعون عنها ضد خصوم مفترضين.
والأخطر من ذلك، أن هؤلاء الذين يدّعون حماية المؤسسة الأمنية تحولوا إلى خطر في حد ذاتهم، حيث يستقوون على المواطنين كما لو أنهم فوق القانون، وكأنهم يتمتعون بحماية خاصة تتيح لهم ممارسة التشهير والطعن في الأعراض دون أي رادع. بل إن بعضهم، رغم رفع شكايات ضدهم، يظهرون على قنواتهم يهددون ويتوعدون ضحاياهم بكل جرأة، مما يطرح تساؤلات حول سر هذا الإفلات من العقاب، وكيف يُسمح لهم بالاستمرار في استغلال اسم المؤسسة الأمنية لممارسة الترهيب، مما يعطي الانطباع بأنهم محصّنون أو مدعومون بشكل غير رسمي. وهذا الانطباع ناتج عن التساهل المريب والتعامل غير الصارم معهم، وهو ما خلق فتنة واحتقانًا داخل المجتمع، ودفع البعض إلى توجيه سهام انتقاداتهم مباشرة إلى بعض مسؤولي جهاز الأمن، بدلًا من تحميل المسؤولية للمخالفين الحقيقيين. لذا، فإن المؤسسة الأمنية مطالبة إما بالتبرؤ من هؤلاء بشكل رسمي، أو التعامل معهم بصرامة وجدية.
وعند البحث في الأسباب التي تدفع البعض إلى مهاجمة رموز الدولة، خاصة أولئك الذين يعملون في الظل وفق ما تقتضيه حساسية مناصبهم، نجد أن المشكلة ليست فقط في المهاجمين، بل أيضًا في الذين نصبوا أنفسهم مدافعين عن المؤسسة الأمنية، فأصبحوا الوجه الآخر للعبة. فبقدر ما يدّعون الدفاع عنها، رغم سجلهم المثير للجدل في التهجم عليها سابقًا، فإنهم في الواقع يسيئون لصورتها أكثر مما ينفعونها. فالمؤسسة الأمنية لها قنواتها الرسمية للتواصل، ولا يمكن أن تعتمد على دخلاء غوغائيين ليتحدثوا باسمها، لأن هذه الفوضى الإعلامية أضرّت بها أكثر مما خدمتها.
إن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد طبيعي لعصر التكنولوجيا الذي تزامن مع انحسار الصحافة الجادة، حتى صار التهجم مهارة، والدفاع مهنة. وفي هذا المناخ، يزدهر نوع خاص من “الخبراء” الذين يحترفون لعبة التهويل، فيعيدون تدوير نفس السرديات المستهلكة حول الخطر الداهم والمؤامرات المزعومة، بينما في الواقع، لا يتعدى الأمر كونه استثمارًا في الإثارة، حيث كلما ارتفع منسوب الصراخ، زادت أعداد المشاهدات، وبالتالي تضاعفت العائدات.
وفي هذا الصدد، فإن الأمر لا يحتاج إلى مواجهات مباشرة أو خطابات دفاعية مرتبكة، بل إن أنجع وسيلة للتعامل مع هؤلاء هي التجاهل الذكي، لأن الدول القوية لا تضيّع وقتها في معارك مع أشباح افتراضية، بل تحقق الإنجازات وتترك النتائج تتحدث عنها.
إن الدولة ليست بحاجة إلى جيوش إلكترونية، ولا إلى أصوات غوغائية ترفع شعارات الدفاع عنها، لأن ذلك يُفقدها مصداقيتها أكثر مما يضيف إليها. فالدفاع الحقيقي لا يكون بالصراخ والمزايدات، بل يكون بالعمل الجاد والإنجازات التي يتحدث عنها الواقع وليس “اللايفات اليوتيوبية”. أما الذين يتخذون الدفاع عن المؤسسات وسيلة لتصفية الحسابات، فهم في الحقيقة ليسوا سوى مستفيدين من الفوضى، ولن يتوقفوا إلا حين تتغير اللعبة ويبحثون عن مصدر جديد للربح.
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي غارقة بأشخاص لم يكن هدفهم محاربة الفساد كما يدّعون، وإنما زرع الفتنة داخل الأوساط المجتمعية. وعليه، فإن من يريد المشاركة في العمل السياسي والحقوقي، فإن قانون الأحزاب يتيح له ذلك، ويمكنه الدفاع عن الوطن والشعب وجميع المؤسسات من خلال الأطر الحزبية. أما أن يضع أمامه هاتفًا نقالًا ويصرخ بكلام لا يدرك قيمته القانونية، ودون الاكتراث بالقوانين الوطنية، فهذا نوع من العبث.
إن هؤلاء المؤثرين الذين يصفون أنفسهم بـ”المدافعين عن الوطنية” عليهم أن يثبتوا وطنيتهم وجرأتهم من داخل مؤسسات حزبية مؤطرة قانونًا إن كانوا فعلًا يؤمنون بالمؤسسات كما يدعون. وإن لم يجدوا حزبًا يناسبهم، فيمكنهم تأسيس حزب يعبر عن قناعاتهم وأفكارهم في إطار القانون.
لكن ما يتبين هو أن هؤلاء المؤثرين لا يريدون من وسائل التواصل الاجتماعي إفادة المواطن وتأطيره، وإنما خلق نوع من الشرخ والتصدع الاجتماعي، وتسهيل تسلل الخطاب العدائي إلى الشؤون الداخلية للدولة. ولعل المسؤولية في ذلك تقع أيضًا على الدولة نفسها، التي أنهكت العمل السياسي في زمن ما، وأضعفت الأحزاب والمجتمع المدني، مما جعل الجبهة الداخلية هشة وقابلة للانهيار، وهو أمر أثر على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المغرب، نتج عنه بروز طفيليات مثل هؤلاء، وحتى طفيليات الصحافة.
إننا نعيش أزمة أخلاقية سياسية وتربوية، جعلت الدولة بمؤسساتها تواجه واقعًا شعبويًا متدهورًا في الخطاب، يحتاج إلى تصحيح جذري وإعادة ضبط المسار.

شارك هذا المحتوى