الأنباء بوست/ حسن المولوع
أصبح من الواضح تماما أن قطاع الصحافة والنشر، في ظل الوضع الراهن، يعاني من نقص الاستقلالية والقدرة على أداء دوره الحقيقي في خدمة المجتمع وحقوق المواطنين. إذ إن هذا الضعف أدى إلى بروز شخصيات مثل هشام جيراندو، الذي أصبح واحدًا من أبرز الأسماء على منصات التواصل الاجتماعي رغم أن سجله مليء بالجدل والمشاكل القانونية.
في الوقت الذي كان ينبغي فيه للصحافة أن تكون الصوت المدافع عن الحق والحقيقة، وأن تكرس قيم الديمقراطية والمواطنة، نجدها اليوم تعاني من انحرافات خطيرة أدت إلى تدهور صورتها. وبينما كان يمكن لهذه المهنة أن تكون قوة مؤثرة في المجتمع، أصبحت اليوم رهينة لأجندات شخصية وتحالفات سياسية مشبوهة، ليس أقلها الهيمنة الواضحة على المجلس الوطني للصحافة، الذي أصبح أداة في يد ثنائي مثير للجدل، هما يونس مجاهد عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعبد الله البقالي عن حزب الاستقلال.
لكن الأسئلة الجوهرية التي يجب أن نطرحها هنا هي: لماذا وصلت الصحافة المغربية إلى هذا الوضع المزري؟ ولماذا أصبحت شخصيات مثل هشام جيراندو محط اهتمام واسع رغم سجله المشكوك فيه؟ وهل جيراندو هو السبب في تدهور الصحافة المغربية؟ أم أن هناك جهات معينة ساعدت في ظهوره ليصبح مؤثرًا في وقت أضحت فيه الصحافة رهينة لأجندات خاصة؟
فلنكن صرحاء، هشام جيراندو لم يظهر بين ليلة وضحاها على الساحة الإعلامية، ولم يكن بمقدوره أن يتصدر المشهد لولا أن الصحافة، في بعض جوانبها، قد تخلت عن دورها كمراقب مستقل للحكومة، وتخلت عن أمانتها في نقل الحقيقة. فجيراندو، الذي لا يتوفر على خلفية صحفية قوية ولا يمثل الصحافة الحرة ، أصبح اليوم يملك جمهورًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، بفضل تفشي الفوضى الإعلامية التي أتاحت له ملء الفراغ الذي خلفته الصحافة التقليدية.
المثير للدهشة أن هذا الصعود لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لفراغ سياسي وإعلامي حقيقي في الساحة المغربية. فجيراندو، الذي يتابعه العديد من المغاربة الباحثين عن محتوى يتحدث بلغة قريبة من واقعهم، أصبح قادرًا على التأثير في الرأي العام، بينما الصحافة المغربية لا تزال محاصرة بين أصحاب المصالح المتعددة.
إذا كان إعلامنا اليوم يفتقر إلى القوة والمصداقية، فهذا ليس بمحض الصدفة. بل هو نتيجة للهيمنة المستمرة لشخصيات مثل يونس مجاهد وعبد الله البقالي، اللذين يسيطران على المجلس الوطني للصحافة. فهذا المجلس، الذي كان من المفترض أن يكون أداة لتنظيم المهنة وحمايتها وضمان تعددية المنابر الاعلامية بما يخدم مصالح الوطن ، أصبح أداة لتصفية الحسابات الشخصية، حيث حوله هذا الثنائي إلى أداة لتنفيذ سياسات خاصة تساهم في تعزيز وضعهما الشخصي داخل الميدان.
وفي سياق الحديث عن هشام جيراندو وتأثيره على الساحة الإعلامية المغربية، لا يمكننا أن نتجاهل دور الصحافة في تعزيز هذه الظاهرة. فالمضحك المبكي أن بعض المواقع الإلكترونية وبدلاً من أن تقوم بنقد ذاتي لها وتضع يدها على مكمن الداء، تتخذ من هشام جيراندو مادة إعلامية، حيث تقصفه إعلاميًا، لكن في حقيقة الأمر هو يتقوى بمقالاتهم المضحكة التي تثير البكاء.
في بعض الأحيان، تتحرك في أصحاب هذه المواقع الإلكترونية تلك الروح الوطنية الزائفة دفاعًا عن بعض المسؤولين الذين يتناولهم هذا الشخص، ويتناسون طرح السؤال الحارق: لماذا صار هذا الرجل مزعجًا؟ فعندما نجد الجواب عن هذا السؤال، سنعرف أصل الداء. لأن وجود هذا الشخص ما هو إلا نتيجة لضعف الصحافة وعدم قيامها بأدوارها الحيوية. فالصحافة كما هو معلوم هي جزء من الأمن القومي، والقضاء عليها هو القضاء على الأمن، وتقويتها رهينة بتقوية التنظيمات المهنية وابعادها عن يد الباحثين عن الريع السياسي والإعلامي مثل يونس مجاهد الذي تجاوز سن التقاعد وعبد الله البقالي هو الآخر بلغ من الكبر عتيا وغيرهما ممن عبثوا بقطاع الصحافة والنشر.
وعلى الرغم من أن الصحافة كانت في يوم من الأيام ركيزة أساسية في نشر الوعي السياسي والثقافي في المجتمع المغربي، إلا أن الوضع الحالي يؤكد أن هذا الدور قد تراجع بشكل كبير. فما نشهده اليوم هو أن الصحافيين المستقلين أصبحوا في مواجهة ضغوط كبيرة، إما بسبب القمع الممارس عليهم أو بسبب فقدان المساحات الحرة التي كانت موجودة في الماضي. فلو كانت الصحافة المغربية قوية، ولو كانت المؤسسات الصحفية في المغرب تتمتع بالاستقلالية الكاملة، لما كان لشخصيات مثل جيراندو أن تكون لها هذه الشعبية أو هذا التأثير.
وفي ظل هذا الانهيار والسقوط الحر، بدأ المواطنون يلجأون إلى منصات التواصل الاجتماعي كبديل. لأنهم، ببساطة، يبحثون عن خطاب حقيقي لا يقتصر على التطبيل للحكومة أو التأييد الأعمى للقرارات. فهم بحاجة إلى محتوى نقدي، إلى تحليلات جادة وواقعية. والمشكلة أن الإعلام التقليدي لم يعد يقدم لهم هذه الحاجة. فبينما تتربع أسماء مثل الرمضاني ولغزيوي على عرش الإعلام المغربي، لا يزال غالبية الشعب المغربي يفتقد إلى خطاب يعبر عن همومهم الحقيقية بعيدًا عن المجاملات والمساومات.
إن بقاء يونس مجاهد وعبد الله البقالي على رأس المجلس الوطني للصحافة ليس مجرد صدفة، بل هو تجسيد حقيقي للأزمة التي تعيشها الصحافة المغربية اليوم. فهما ليسا فقط سببًا في تدهور المهنة، بل هما أيضًا جزء من مشكلة أكبر تتمثل في الهيمنة السياسية على الإعلام. وبدلاً من أن يكون المجلس الوطني للصحافة منبرًا حقيقيًا للدفاع عن الصحافة الحرة، أصبح بمثابة الأداة التي تخدم أجندات معينة، وهو ما يعكس حجم الفساد المستشري في القطاع الإعلامي.
أما الوزير المهدي بنسعيد، الذي يعتبر الحارس الجديد لمقبرة الصحافة الحرة، فقد اختار أن يكون جزءًا من هذا الانحدار. فهو، ومن خلال تحالفاته مع “حيتان الإعلام”، لا يعبر عن نية جادة في دعم الصحافة المستقلة، بل يساهم في تأبيد الوضع الحالي الذي يخدم مصالح قلة على حساب مهنة الصحافة ومستقبلها. فقراراته الأخيرة، التي تم اتخاذها وراء الأبواب المغلقة، كشفت عن تجاهل تام للدستور ولمبادئ الديمقراطية التشاركية التي من المفترض أن تحكم القطاع الإعلامي، وأيضًا إقبار تام للتعددية الإعلامية في إطار التنافس الشريف.
قراره الأخير بشأن توزيع الدعم العمومي على الصحف، والذي يعتمد بشكل أساسي على “رقم المعاملات” كمقياس، هو في الواقع ضرب للصحافة المستقلة وللمقاولات الصغيرة والمتوسطة، وهي الصحف التي تمثل نبض المواطنين في مختلف أنحاء البلاد. فهذا القرار يعد جريمة بحق الصحافة ويعزز من سيطرة الفئات التي لا تمثل إلا نفسها.
الحقيقة الصادمة التي لا يريد البعض أن يعترف بها هي أن هشام جيراندو، بكل ما له من طموحات وأطروحات مثيرة للجدل، هو في الحقيقة نتيجة مباشرة لضعف الصحافة التي ابتليت بعوامل الفساد والاستبداد. فالصحافة الحرة، التي كانت يومًا ما حائط صد ضد الظلم والفساد، أصبحت اليوم مجرد بوق للحكومة في يد قلة قليلة من الشخصيات التي تستفيد من الريع الإعلامي، فيما يُترك الصحافيون المستقلون ليواجهوا المصير المجهول.
نقولها ونعيدها بصوت عالٍ: إن هشام جيراندو ليس إلا نتيجة مباشرة لضعف الصحافة، التي هيمنت عليها مصالح الريع السياسي والإعلامي. وإذا استمرت الأمور بهذا الشكل، فإن المستقبل الإعلامي سيكون مظلمًا، وسيظل الإعلام المستقل في حالة ركود مستمر، ما يعزز من حضور “المؤثرين” الذين يستغلون الفراغ الإعلامي لتحقيق أجنداتهم الخاصة.
اليوم يجب أن نقف وقفة مع الذات بكل شجاعة وتجرد، لنقول إنه إذا أردنا أن نعيد للصحافة هيبتها ومصداقيتها، يجب أن نتحرك بسرعة لنزع الهيمنة عن هذه الشخصيات التي أضعفت القطاع وجعلته يتهاوى أمام أول موجة من التحديات. فالصحافة المستقلة هي ركيزة أساسية لأي ديمقراطية حقيقية، ويجب أن نحرص على حمايتها، ليس فقط من أجل الصحافيين، بل من أجل المواطن المغربي الذي يحتاج إلى إعلام قوي وحر يسلط الضوء على قضاياه ويعبر عن صوته.
شارك هذا المحتوى