
الأنباء بوست / حسن المولوع
لو كانت المشاريع تُقاس بعدد الشرائح التي تُعرض في قاعات الاجتماعات، لكان التعليم المغربي في طليعة الأمم. ولو كانت “الرؤية الاستراتيجية” تكفي وحدها لتنوير العقول، لصار كل تلميذ مغربي فيلسوفا صغيرا. لكن الحقيقة ـ كما كشفها التقييم الأخير الصادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين ـ تُدوّي بوضوح: مدارس الريادة لم تكن رائدة إلا في العناوين، أما المضمون، فعودة كسولة إلى أفكار بائدة.
التقييم الخارجي، الذي يتمتع بمصداقية عالية، لم يجامل أحدا إذ قال أن المشروع لم يحقق النجاح الموعود، بل تبنّى تصورات تربوية عفا عنها الزمن، تعود إلى ما قبل الميثاق الوطني للتربية والتكوين. فالتجربة لم تكن فقط مرتبكة، بل كانت مُربِكة، وقد اصطدمت بإكراهات إدارية وتربوية خانقة، جعلتها غير قابلة للتعميم ولا للتكرار.
الأسوأ من ذلك: أنها تتعارض جوهريا مع الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار، وكأننا نُصرّ على السير إلى الوراء ونحن نردّد شعارات التقدّم.
في كواليس مدارس الريادة، الحقيقة أكثر مرارة: تلاميذ تراجع مستواهم مقارنة بالسنة الماضية، إحباط عام، وغياب شبه تام للحماس الذي كان يُضيء الفصول في سنوات سابقة. فكيف يُطلب من تلميذ أن يكون رائدا، وهو يتعلم من كراسة رديئة الإخراج، بالأبيض والأسود، بينما زملاؤه في مؤسسات أخرى يتعلمون من كتب مطبوعة بجودة عالية؟ كيف نُقنع تلميذا بأن عرض مئة سلايد عبر المسلاط هو أداة للتحفيز، وليس وسيلة لتفريغ ما تبقى من طاقة الأستاذ؟
ثم دعونا نطرح السؤال الفاضح: لو كانت هذه “المدرسة الرائدة” نموذجا ناجحا فعلا، لماذا لم تُعتمد في التعليم الخصوصي؟ لماذا لم نر مدرسة خاصة واحدة تُطبّق هذا النموذج؟ الجواب بسيط ومؤلم: لأن التعليم العمومي وحده يُترك للخراب، ويُفتح لأصحاب القرارات العشوائية كي يُجرّبوا فيه آخر ابتكاراتهم وكأن أبناء الشعب مجرد فئران تجارب.
كم من تجربة قُدّمت لنا على طبق من الأوهام، ثم اختفت دون حساب؟ كم من تلميذ ضاع في زحمة الطموحات النظرية، وهو لا يملك سوى حلم بسيط: أن يتعلم حقًا؟
ولأننا نحترف التجريب على البشر، فقد اختارت الوزارة أن تنفذ مشروعها مباشرة على الآلاف من التلاميذ، بدلا من تجريبه على عيّنات صغيرة خلال فترات العطل. ولم تُشرك في هذا الاختيار لا الأطر التربوية، ولا هيئة التفتيش، ولا الإداريين، بل اعتمدت على قرارات فوقية تُنزل كالأوامر، ثم يُنتظر التصفيق لها. فإن تجرّأ أحدهم على الانتقاد، وُصِم بمعاداة “السامية البيداغوجية”، وكأننا في طقس عقائدي لا يجوز فيه السؤال أو الشك.
نتائج التقييم كانت صادمة: صحيح أن هناك نسبة من التلاميذ تحسن مستواهم، تراوحت بين 50% و67%، لكنها تراجعت في المستويات العليا من الابتدائي.
الأسوأ أن هذا التحسن لم يكن بفضل منهجية “التدريس الصريح” التي يتغنّون بها، بل بفضل الدعم التربوي الخارجي، ما يُشكك في جدوى المقاربة البيداغوجية المعتمدة أصلاً.
ومع هذا الفشل، قررت الوزارة إعفاء بعض المسؤولين الإقليميين، في حركة تشبه قشّة تُرمى من ظهر الجمل. لكن السؤال الحقيقي الذي لا يُطرح هو: ماذا عن المسؤولين المركزيين والجهويين؟ من يحاسبهم على تعثر المشروع؟ أم أن الفشل في هذا البلد لا يُكلف شيئا إن صدر من الأعلى؟
وثيقة “المدرسة الجديدة”، التي أصدرتها في المقابل الهيئة نفسها، جاءت كصفعة ناعمة على وجه السياسة التعليمية الرسمية: دعت إلى تعزيز استقلالية المؤسسات التعليمية، وتحسين الحكامة المحلية، وإشراك الجماعات الترابية في تمويل التعليم. ركزت على تنمية الكفايات العليا: التفكير النقدي، الإبداع، وحلّ المشكلات. فهذه الوثيقة لم تكن فقط مقترحا تربويا، بل ردا صريحا على انحراف الحكومة عن تطبيق الإصلاحات كما نصّت عليها الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار 51.17.
أما المقارنة بين “مدارس الريادة” و”المدرسة الجديدة”، فهي كالمقارنة بين آلة كاتبة وجهاز حاسوب. فالأولى تعتمد على المركزية وتُقصي الجماعات الترابية، وتختزل التعليم في المعارف الأساسية، بينما الثانية تدعو إلى اللامركزية، وترى المدرسة كمنظومة متجانسة تهدف إلى تنمية القدرات لا إلى حشو العقول.
أجمل ما في مشروع الريادة، بشهادة الجميع، هو طلاء جدران المؤسسات وتأهيلها شكليا. تجميل الواجهة… وتجاهل الخواء الذي يسكن الداخل. لكن التلميذ لا يتعلم من الألوان، والمعلم لا يُحفّز بواجهة جديدة، والمنظومة لا تُصلحها المساحيق.
المرحلة القادمة تتطلب شجاعة نادرة: على الحكومة أن تعود إلى النصوص التي خطّتها بيدها، وأن تُنصت لمن هم في الميدان لا لمن يُعدّون الشرائح في المكاتب المكيفة. وعلى المجلس الأعلى أن يستمر في التفكير في مستقبل التعليم إلى حدود 2050، لكن بعد أن يُنقذ ما تبقّى من الحاضر.
أما نحن، فقد تعبنا من التصفيق. تعبنا من الإشادة بإنجازات لا نراها. تعبنا من أن نُعامل أبناءنا كأرقام في تقارير دولية، أو فئران تجارب في مختبرات بيداغوجية. لقد آن الأوانُ أن نُعلّم قبل أن نُنظّر، أن نُصغي قبل أن نُخطط، وأن نُحاور قبل أن نُقرّر.

شارك هذا المحتوى