ذ. مراد احتي
باحث في القانون العام والعلوم السياسية.
جامعة القاضي عياض- مراكش
تتبع جميع الباحثين والمهتمين بالحياة العامة للدولة كيف أن المؤسسة الملكية أعلنت عن فشل النموذج التنموي القديم سنة 2017 في خطاب جريء، حيث أرجع ملك المغرب هذا الفشل إلى عدم قدرة التصور التنموي القديم على الإستجابة للمطالب الملحة والحاجات المتزايدة للمواطنين، إضافة إلى عدم قدرته على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، إضافة إلى عدم قدرته على خلق العدالة الاجتماعية.
وهو ما دفع المؤسسة الملكية في السنة الموالية (2018) إلى تكليف لجنة خاصة مهمتها تجميع المساهمات وترتيبها وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منظور استراتيجي شامل، ترفعه هذه اللجنة كمشروع نموذج تنموي جديد إلى النظر السامي للعاهل المغربي، وبالفعل بعد عمل استغرق مدة طويلة تمكنت لجنة النموذج التنموي برئاسة شكيب بن موسى وفي إطار مقاربة تشاركية من إخراج تقرير النموذج التنموي إلى حيز الوجود. لكن السؤال المطروح والذي دفعنا لكتابة المقال أصلا هو هل وضع نموذج تنموي ناجح ومتميز إذا أجمعنا عن ذلك (فرضيا) كافي لتحقيق التنمية المنشودة والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية؟
يبدو أن مجموعة من الدول عندما تريد حل أزمة معينة أو تحقيق إصلاح في قطاع ما أو إنهاء مشكل عمومي معين، تنفتح على تجارب مقارنة قصد الاستفادة من التطور الحاصل في تلك الدول، وهذا أمر محمود بل وممتاز، إلا أن هذا الأمر لا يعني أن أخذ هذه النماذج المقارنة والحرص على أجرأتها وطنيا من خلال سياسات عمومية مماثلة سوف يعطي نفس الثمار، ويحقق إقلاعا اقتصاديا، بل إن الأمر يتطلب ملائمة هذه السياسات العمومية مع البيئة المالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجغرافية والبشرية ومع الإمكانيات والخصوصيات الوطنية والإقليمية..
وبالفعل بذلت لجنة النموذج التنموي العديد من المجهودات محاولة وضع نموذج تنموي وطني ينطلق من البيئة المغربية في مختلف أبعادها، حيث تم استحضار المقاربة التشاركية مع الفاعلين السياسيين والمدنيين والاقتصاديين، لكننا رصدنا هذا المثال أعلاه لكي نبين أن النموذج التنموي مهما كان متميزا وناجحا على مستوى التخطيط وحتى لو تمت تجربته من طرف دول رائدة فليس من المضمون أن يحقق الأهداف المسطرة في الأجندة السياسية للدولة بالشكل المطلوب، بل سيبقى محدودا ولن يتم تنزيل آثاره بشكل ملموس على الحياة العامة للدولة، بدون آليات تنزيل حقيقية تمتاز بالنجاعة والفعالية القادرتين على تجويد الأداء العمومي.
من هذا المنطلق فإن النموذج التنموي الناجح يقتضي آليات تنزيل وأجرأة ناجحة كذلك، فتجديد التصور التنموي للدولة يحتاج إلى تسليط الضوء على آليات تنزيله عمليا كذلك، وإلا فلن يختلف كثيرا عن النموذج التنموي السابق مهما كان ممتازا.
وعلى هذا الأساس فإن الرهان هو القدرة على إيجاد السبل القوية والناجعة القادرة على تنزيل حقيقي للنموذج التنموي في إطار جو تسوده الحكامة المؤسساتية والمالية والإدارية، وتنزيلا لمقتضيات الوثيقة الدستورية التي خصصت للحكامة بابا كاملا، وهو الشيء الذي يضمن إلى حد كبير تحقيق ما عجز عنه النموذج التنموي السابق خصوصا على مستوى تقليص الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية، لذا فإن بناء المغرب الممكن أو مغرب الغد يقتضي إذن تكريس ما كان ضعف تفعيله سببا في فشل النموذج التنموي السابق، بما في ذلك تحقيق دولة الحق والقانون المرتكزة على احترام منظومة حقوق الإنسان، ثم ربط المسؤولية بالمحاسبة من أجل السيطرة على الفساد وإزالة ظاهرة نهب المال العام، عبر تقوية وتفعيل آليات الرقابة القبلية والمواكبة واللاحقة من طرف أجهزة الرقابة لاسيما المجلس الأعلى للحسابات باعتباره أعلى هيئة للرقابة على المالية العمومية حسب مقتضيات الفصل 147 من دستور المملكة.
وكذلك تحقيق فعالية الحكومة عبر انسجام القطاعات فيما بينها وإلتقائيتها في مختلف السياسات العمومية والقطاعية المتخذة، مع الحرص على إشراك المواطنين وكافة الفاعلين غير الرسميين في عملية بلورة هذه السياسات من أجل تجويدها والرفع من جودتها.
بالإضافة إلى أجرأة التنظيم اللامركزي القائم على الجهوية المتقدمة المنصوص عليها منذ سنة 2011 في الفصل الأول من الدستور، من خلال منح الجماعات الترابية الثقة الكاملة لممارسة مهامها وتفعيل اختصاصاتها، بل وتقوية صلاحياتها الذاتية في بعض المجالات الحيوية، وهو ما يمكن تحقيقه عبر حل إشكالية ضعف التمويل الذاتي للجماعات الترابية واستقلال قراراتها الإدارية والمالية والجبائية، وكذا إيجاد حل لمشكلة نقص الكفاءة المطلوبة في النخب السياسية المحلية وإن تطلب الأمر إجراء تعديل على القانون الإنتخابي بإشتراط مستوى تعليمي عالي، فالشرط لا يلغي الديمقراطية وإنما يزيد من قيمتها وجودتها من خلال انعكاساته على جودة التدبير العمومي المحلي، ناهيك عن إلزامية التكوين المستمر لأعضاء المجالس الترابية خاصة في مجال القانون العام والديمقراطية التشاركية والمالية المحلية والسياسات العمومية الترابية..
وعلى سبيل الختم، لابد من القول أن النماذج والتصورات التنموية مهما كانت متميزة بطموحات واعدة وأهداف رائدة لبناء المغرب الممكن/ مغرب الغد والمستقبل، إلا أنها تبقى حبيسة آليات التنزيل والتفعيل التي قد تنجح في أجرأة هذه النماذج التنموية على أرض الواقع وقد تعجز عن ذلك، لذا فإن الرهان الحقيقي اليوم وأكثر من أي وقت مضى هو الحرص الشديد على القيام بالإصلاحات الحقيقية الجوهرية والهيكلية قبل الحديث عن الأوراش والمشاريع التنموية المناسبة، لأن هذه الأخيرة دون إصلاحات هيكلية ومؤسساتية قائمة على تفعيل مبادئ الحكامة الجيدة في بعدها السياسي والاقتصادي والحقوقي لاسيما المساءلة والسيطرة عن الفساد، لن تستطيع الخروج إلى حيز الوجود وإن خرجت فلن تخرج إليه بالشكل المطلوب ولن تكون عند مستوى تطلعات المواطنين.
شارك هذا المحتوى