الأنباء بوست/ حسن المولوع
بكل جرأة وقوة، لابد أن نقول إن ما يعيشه قطاع الصحافة والنشر في المغرب اليوم لم يكن سوى حصيلة تراكمات نبهنا إليها في بداياتها، قبل تأسيس المجلس الوطني للصحافة. ورغم التحذيرات والمخاوف التي أطلقها المهنيون، تم الالتفاف على إرادة الصحافيين والصحافيات بخلق بدعة أطلق عليها “اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر”، وهي مخالفة واضحة للفصل 28 من الدستور الذي يكفل حرية الصحافة واستقلالها.
إن هذا العبث المستمر في القطاع الإعلامي ليس نتيجة الظروف، بل هو من صنع الثنائي عبد الله البقالي ويونس امجاهد. هذان الشخصان، اللذان تحولا إلى رمزين للهيمنة المطلقة داخل القطاع، باتا منبوذين من قبل غالبية الصحافيين والصحافيات. ولعل البيانات الصادرة عن التنظيمات المهنية الكبرى كانت بمثابة جرس إنذار قوي، يدعو إلى تدخل السلطات العليا لوقف هذا التدهور وإخضاع المسؤولين للمساءلة أمام القضاء والمجلس الأعلى للحسابات، لأن لا حرية ولا مهنية بدون محاسبة.
لنفهم بداية الحكاية التي تكشف عن وجه آخر من الخداع، نعود إلى يوم 22 يونيو 2018، حيث توجه الصحافيون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب المجلس الوطني للصحافة، حاملين آمالًا كبيرة بتأسيس إطار ينظم العمل الصحافي ويعيد له هيبته ضمن مفهوم “التنظيم الذاتي للمهنة”. لم تكن هناك شكوك كثيرة حينها، واعتقدت الأغلبية أن حميد ساعدني سيكون رئيس المجلس، بفضل تاريخه المهني النظيف وكفاءته العالية. حتى أن أسماء مثل ربيعة مالك كانت موضع ثقة كبيرة بين الصحافيين بفضل عملها النقابي المتميز في الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة.
لكن الحلم لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما انقلبت الأمور عند تشكيل المجلس وتوزيع اللجان، حيث ظهر يونس امجاهد بشكل مفاجئ على رأس المجلس، بينما تولى عبد الله البقالي رئاسة لجنة منح البطاقة المهنية. وهنا أدرك الجميع أن الخديعة كانت مبيتة، وأن الانتخابات لم تكن تختلف عن مسرحيات الاقتراع السياسي الذي يشوبه التلاعب.
منذ ذلك الوقت، تحول المجلس الوطني للصحافة إلى نسخة من النقابة الوطنية للصحافة المغربية، حيث استمر العبث في اتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة بعض الأطراف على حساب مصلحة القطاع بأكمله. وحين انتهت ولاية المجلس بعد أربع سنوات ونصف، تم الالتفاف مجددًا على المنهجية الديمقراطية بإحداث “اللجنة المؤقتة” التي ضمت فقط الثنائي البقالي وامجاهد، في استبعاد ممنهج لكل الأصوات المستقلة التي تميزت بالنزاهة والجرأة، مثل ربيعة مالك والمختار عماري ومحتات الرقاص ونور الدين مفتاح وغيرهم من الأسماء التي كانت تمثل صوت المهنية داخل المجلس.
لم تكن هناك أية مبررات لاستبعاد هذه الشخصيات التي تمتلك قاعدة انتخابية ومهنية قوية، سوى أنها لا تنتمي للأحزاب التي يستمد منها الثنائي نفوذهما. فمن الواضح أن يونس امجاهد، العضو البارز في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وعبد الله البقالي، المنتمي لحزب الاستقلال، عملا على تسخير المؤسسات الإعلامية لخدمة مصالح حزبية ضيقة، مما أدى إلى تراجع ثقة الصحافيين وإدخال القطاع في أزمة خانقة.
تفاقم الوضع بشكل خطير منذ إحداث اللجنة المؤقتة التي كانت بمثابة انقضاض على ما تبقى من مبادئ الديمقراطية والمهنية. عبد الله البقالي، بصفته رئيس لجنة البطاقة ، أصبح يتحكم في منح البطاقات المهنية بطرق مزاجية، متجاهلًا المعايير المتعارف عليها، مما أثار سخطًا واسعًا في أوساط الصحافيين. وقد وصل الأمر إلى حد إصدار بلاغات منددة من التنظيمات المهنية الكبرى، هذه البلاغات سيتم تقديمها للقضاء لتعزيز ملفات شكايات تتهم البقالي باستغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة.
إن هذه الفترة من تاريخ الصحافة المغربية ستكون شاهدًا على مرحلة تميزت بتآمر السياسة على الإعلام، وبتقويض الأسس الديمقراطية التي طالما ناضل الصحافيون لأجلها. إذ لا يمكن أن ننكر أن قطاع الصحافة في المغرب يعيش اليوم أزمة أخلاقية ومهنية غير مسبوقة، حيث تحولت المؤسسات التي كان من المفترض أن تكون حامية للصحافيين والمدافعة عن حقوقهم إلى أدوات تستخدمها أيادٍ خفية لتحقيق مصالح ضيقة، يقف في مقدمتها الثنائي عبد الله البقالي ويونس امجاهد.
لقد تلاعب هذان الرمزان بأمل الصحافيين في تحقيق بيئة مهنية قائمة على الشفافية والنزاهة. فبفضل نفوذهما الحزبي، تمكن الثنائي من إقصاء الأصوات الحرة التي كانت تسعى لإصلاح القطاع، وفرض سيطرتهما المطلقة على مقاليد الأمور، غير عابئين بمصير آلاف الصحافيين الذين يطمحون لرؤية صحافة مستقلة وديمقراطية.
الأزمة الحالية لم تكن مجرد صدفة، بل هي نتيجة حتمية لسنوات من الاستغلال المنظم للسلطة والمناصب. فبدلًا من أن يكون المجلس الوطني للصحافة مظلة تحمي حرية التعبير وتعزز المهنية، أصبح أداة لتحقيق المصالح الشخصية وإقصاء الأصوات الناقدة. ولعل اللجنة المؤقتة لتسيير القطاع، التي شُكلت بمخالفة دستورية واضحة، تجسد أوج هذا التلاعب.
لم تعد الأمور تتوقف عند قرارات عشوائية أو انحيازات غير مبررة، بل تجاوزت ذلك إلى التحكم المطلق في منح البطاقات المهنية بطريقة مزاجية تخدم أجندات خاصة وتستبعد كل من لا يرضخ لتلك السلطة.
التنظيمات المهنية، التي كانت تمثل الصوت الحقيقي للصحافيين، أدركت حجم الخطر الذي يتهدد حرية الصحافة، وأصدرت بلاغات منددة . ومع أن الطريق إلى الإصلاح يبدو صعبًا، إلا أن الإرادة الجماعية للصحافيين والصحافيات الحريصين على حماية مهنتهم قد تكون الشرارة الأولى التي تدفع نحو استعادة كرامة الصحافة في المغرب.
إن المشهد الراهن يتطلب وقوف الجميع من أجل محاربة هذه الهيمنة المدمرة وإعادة ترتيب أوراق القطاع بما يتماشى مع دستور البلاد ومبادئ الديمقراطية الحقيقية. فالسكوت على العبث الذي يقوده البقالي وامجاهد يعني المزيد من التدهور والانحدار في مصداقية الإعلام ودوره في بناء مجتمع واعٍ وديمقراطي.
ويبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: هل سيشهد قطاع الصحافة والنشر في المغرب مرحلة جديدة تعيد له حريته ومهنيته، أم سيبقى رهن هذا التحالف السياسي الذي جعل من الصحافة رهينة بيد المصالح الضيقة؟
شارك هذا المحتوى