
الأنباء بوست/ حسن المولوع
إذا كان للصحافة أقلام تعبر عن روح الحرية، فإن ليونس مجاهد مجرد قلم يعبّر عن روح البيروقراطية، تلك الروح الجامدة التي لا تُنبت فكرا ولا تثمر وعيا، بل تُنتج نصوصا باردة لا طعم فيها ولا لون، مثل المقال المنشور على صحيفة برلمان كوم الذي كتبه تحت عنوان “معايير الجودة في الصحافة والسلطة الخامسة”، والذي لا يعدو كونه تبريرا لمزيد من القمع والتضييق، مغلفا بلغة أكاديمية مملة، تُذكّرنا بخطابات موظفي الوزارات أكثر مما تُذكرنا بمقالات الصحفيين الأحرار.
يونس مجاهد، الذي يفترض فيه أن يكون مدافعا عن الصحافة، كتب مقالا أشبه بمنشور رسمي يُبرر التدخلات السلطوية في القطاع، ويبرر تشديد القيود بدل كسرها، وكأنه ينقل إلينا وثيقة إدارية صادرة عن مجلس بيروقراطي لا عن عقلية صحفي من المفترض أن يكون حاملا لهمّ الحرية لا حاملا لملفات التقنين والتأطير والتقييد.
يحدثنا هذا “النقيب السابق” عن تجربة فرنسا في تنظيم الصحافة، لكنه يتناسى أن فرنسا، رغم كل قوانينها، لا تكمم الأفواه ولا تفرض على الصحفيين وصاية، بل تضع القوانين لحمايتهم لا لخنقهم. أما هو، فيريد لنا تنظيما على مقاس الدولة، حيث يكون الصحفي مجرد كاتب مأجور، ينتظر فتات الدعم، ويترقب الرضى الرسمي حتى يكتب أو يصمت..
يُسوِّق لنا النموذج المصري كما لو كان فتحا إعلاميا، في حين أن الإعلام في مصر أصبح نموذجا عالميا للقمع، حيث لا يُسمح بإنشاء صحيفة إلا لمن يمتلك رصيدا بنكيا يضمن ولاءه قبل كفاءته، ويُفرض على الصحفيين الانضمام لنقابة تخضع عمليا لسلطة الدولة، ويُوضع المستثمر الإعلامي تحت رقابة مشددة حتى لا يخرج عن الخط. أي أن الصحافة ليست سوى امتياز، تُمنح لمن يخدم النظام، وتُسلب ممن يجرؤ على قول كلمة حق.
أما بريطانيا، فيتحدث عنها مجاهد كما لو كانت جنة التنظيم الذاتي، لكنه يغفل أو يتغافل عمدا عن أن الصحافة هناك ما زالت حرة، وما زال الإعلام قادرا على محاسبة السياسيين دون أن يُضيق عل الصحفيين أو تُغلق المؤسسات الإعلامية بين ليلة وضحاها
ثم يأتينا مجاهد بمصطلح “السلطة الخامسة”، في محاولة لإيهامنا بأنه مُطلع على مستجدات البحث الأكاديمي، لكنه لم يفهم حتى الفكرة الأساسية التي يُحاول الاستشهاد بها، وهي أن “سلطة الجمهور” ظهرت بسبب فشل “السلطة الرابعة” في القيام بدورها الحقيقي، لا بسبب مقاومة الناشرين لتنظيم الدولة! بل إن الجمهور تحوّل إلى رقيب لأن الصحافة التقليدية خانت مبادئها وأصبحت بوقا للسلطة وأصحاب المصالح، تمامًا كما هو حال هذا المقال الذي كتبه مجاهد، والذي لا يخدم إلا أولئك الذين يريدون للصحافة أن تبقى تحت السيطرة، تُكتب بحبر المصالح وتُقرأ بعيون السلطة.
يونس مجاهد، الذي يريدنا أن نؤمن بأن الصحافة لا تكون إلا في إطار تنظيمي صارم، لم يُجب عن السؤال الجوهري: ماذا عن حرية الصحافة؟ هل التنظيم الذي يتحدث عنه يضمن للصحفي حريته، أم أنه مجرد وسيلة لتدجينه وربطه بحبل السلطة حتى لا يفلت من قبضة الرقابة؟
إذا كان مجاهد يرى في القوانين والتقنينات خيرا، فلماذا لم يدعُ يوما لتقنين حرية الصحفيين في مواجهة القمع؟ لماذا لم يُطالب بقوانين تحميهم من السجون بدل أن يُروِّج لقوانين تُقيِّدهم؟ لماذا لم يُخصص مقالا واحدا للحديث عن الصحفيين الذين يتعرضون للمتابعات فقط لأنهم مارسوا حقهم في التعبير؟
الجواب واضح: لأنه لم يكن يوما صوتا للصحفيين، بل كان صوتا للبيروقراطية، رجلا يجد راحته في الاجتماعات الرسمية أكثر مما يجدها في الميدان، صحفيا تخلى عن دوره ليصبح موظفا يكتب التقارير أكثر مما يكتب المقالات، ويُنظر للتنظيم أكثر مما يُناضل من أجل الحرية.
العجيب والغريب أن يونس مجاهد يتحدث عن القانون ولا يطبقه على نفسه مستشهدا بتجارب فرنسا وبريطانيا، لكنه ينسى أو يتناسى أن في تلك الدول لا يوجد مسؤولٌ يشيخُ فوق كرسيه ويرفض التنحي، ولا يوجد مسؤول يُمدِّد لنفسه ضد إرادة الصحافيين، ولا يوجد من يُمسك بالقطاع كأنه إرثٌ عائلي ويرفض إجراء انتخابات.
في فرنسا وبريطانيا، يخضع المسؤول للمحاسبة، وليس هناك رجلٌ يتلاعب بالقوانين ليضمن البقاء على رأس المؤسسات الإعلامية. فهل يونس مجاهد قدَّم الحساب عن فترة رئاسته للمجلس الوطني للصحافة؟ وهل قدَّم تقريرا عن مدة تسييره للجنة المؤقتة للقطاع؟ أم أن الشفافية التي يُطالب بها الصحافيين لا تنطبق عليه؟ لماذا يرفض نشر لوائح الحاصلين على بطاقات الصحافة؟ ولماذا لا يُفصح عن التقارير المالية وأسماء الشركات التي أبرم معها الصفقات؟ أليس القانون الذي يحتكم إليه الصحافيون يجب أن يُطبَّق عليه أولا؟ أم أنه يعتقد أن القانون وُجد فقط لمعاقبة معارضيه وخصومه؟
أما عن هذه السلسلة من المقالات التي يُكثر من كتابتها هذه الأيام، فما سرّ هذا “الإسهال” الصحفي المفاجئ؟ هل هو مجرد اجتهاد فكري أم أنه استشعر أن عمر اللجنة المؤقتة التي يرأسها قد شارف على الانتهاء و بدأ الضغط على الوزير الوصي لتمرير تعديلات قانونية على المقاس ليضمن لنفسه البقاء؟ إن كان ذلك صحيحا، فهو يعلم قبل غيره أن التمديد لا يُكسبه الشرعية، بل يُحوِّله إلى نموذج من “الدكتاتورية المهنية”، حيث يُصبح الصحفي الذي يُفترض أن يُراقب السلطة هو نفسه متمسكا بها أكثر من السياسيين.
لكن الأهم من كل هذا ، أن الدولة تراقب، والنيابة العامة تراقب، وتفهم جيدا كيف يتم استخدام بطائق الصحافة في تصفية الحسابات، حيث يُحرم منها الصحفيون الذين يختلفون مع أصحاب القرار، فيُدفعون إلى خانة “انتحال الصفة”، ليصبحوا في مواجهة القانون بفضل تلاعبات مؤسسة كان يُفترض أن تكون حامية لهم لا خصما ضدهم. غير أن وكلاء الملك بمختلف محاكم المملكة ورئاسة النيابة العامة فطنوا لهذه اللعبة، وفهموا أن الأمر ليس تنظيما بل تلاعبا بمصير الصحافيين، وتصفية حسابات بلبوس قانوني.
و سيبقى السؤال مطروحا يبحث عن إجابة شافية وكافية ، لماذا لا يخضع يونس مجاهد لنفس المعايير التي يُطالب بها الصحافيين؟ لماذا يُنظِّر للشفافية ولا يُمارسها؟ ولماذا يُكثر من الحديث عن التنظيم والقانون، بينما هو أول من يتلاعب بهما ليبقى في السلطة؟ هل يعتقد أن الصحافيين لا يملكون ذاكرة؟ أم أنه يأمل أن تمرّ الأمور كما لو أن لا أحد يرى ولا أحد يُحاسب؟

شارك هذا المحتوى