
الأنباء بوست / حسن المولوع
ما أقسى أن ترى رجلا يتحدث عن الفضيلة وهو غارق حتى أذنيه في الرذيلة المهنية. فيونس امجاهد، الذي أمضى عمره في المناصب الصحافية كما يقضي الفأر حياته في مخزن القمح، يصدر مقالا تحت عنوان “مصداقية الخبر وطُعم النقرات” ليحاضر في أخلاقيات المهنة، متجاهلا أنه كان جزءا من منظومة تحترف التمويه وإخفاء الحقائق بدلا من الدفاع عن شفافيتها..
امجاهد، الذي شغل لسنوات منصب رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية ثم المجلس الوطني للصحافة دون أن يحرك ساكنا ضد الرداءة والفساد، يسعى الآن إلى توزيع صكوك المصداقية على الإعلاميين، معتقدا أن الصحافة نشأت بفضله، وأن الحقيقة لا تصل إلى الناس إلا عبر مقالاته التي لا تأثير لها. فمنذ متى كان للذئب حق الحديث عن أمان القطيع؟
يحاول امجاهد إضفاء طابع علمي على مقاله عبر استدعاء ابن خلدون وعبد الله العروي، لكنه يفعل ذلك بسطحية، مستخدما أفكارهما خارج سياقها. فابن خلدون تحدث عن ضرورة تمحيص الأخبار، لكنه لم يدعُ يوما إلى احتكار الصحافة من طرف فئة معينة أو فرض وصاية على الإعلام بذريعة المهنية. أما استشهاده بالعروي، فهو محاولة ضعيفة للربط بين الصحافي والمؤرخ، رغم أن العروي نفسه كان يدعو إلى تحرير الوعي من القيود الأيديولوجية، لا إلى فرض رقابة تحت غطاء حماية المهنة.
حديث يونس امجاهد، رئيس اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة، عن ضرورة التدقيق في الأخبار وتمحيصها قد يبدو درسا أخلاقيا في الصحافة، لكنه سرعان ما ينكشف كخطاب متناقض يكشف عن ازدواجية مواقفه. فهو يحاول إعادة تلميع صورته بعدما فقد شرعيته، ليس فقط كرئيس لجنة مؤقتة، بل حتى كفاعل صحافي يُفترض أن يتحلى بالحد الأدنى من النزاهة المهنية.
يستشهد عبر مقاله بآية كريمة حول التثبت من الأخبار، مُلمّحا إلى أن التضليل الإعلامي يأتي فقط من وسائل التواصل الاجتماعي، متجاهلا عمدا أن أكبر حملات التزييف الممنهج قادتها جهات رسمية وإعلامية تقليدية كان هو نفسه جزءا منها. فالمؤسسات الصحافية التي يدافع عنها اليوم، والتي يزعم أنها النموذج الأمثل لنقل الحقيقة، لطالما كانت أبواقا للسلطة، تروّج للرواية الرسمية وتحجب المعلومات التي لا يُراد لها أن تصل إلى الرأي العام.
يتحدث عن ضرورة التحقق من المصادر، وهذا جيد نظريا، لكنه لم يقدم يوما، خلال رئاسته للمجلس الوطني للصحافة، أي تقرير شفاف حول طريقة توزيع بطائق الصحافة، أو عن الصفقات التي أبرمها المجلس ولجنته المؤقتة. فأين هي المصداقية التي يدعو إليها؟ ولماذا لا يبدأ بنفسه قبل أن يُلقي الدروس على الآخرين؟
ينتقد امجاهد ظاهرة “طُعم النقرات” (clickbait)، مُغفلا أن الإثارة الصحافية ليست اختراعا جديدا جاء مع وسائل التواصل الاجتماعي. فالإعلام التقليدي اعتمد لسنوات على العناوين الصادمة والتغطيات المضللة، ليس فقط لزيادة عدد القراء، ولكن أيضا لتمرير أجندات سياسية وتوجيه الرأي العام. فما الفرق بين صحافي يسعى لجذب المشاهدات بالإعلانات الرقمية، وآخر يبيع ضميره مقابل منصب في لجنة مؤقتة؟ أليس كلاهما مستعدًا لتشويه الحقيقة لمصلحته الخاصة؟
الخطر الحقيقي في خطاب امجاهد ليس فقط تناقضاته، بل محاولته إقناع الجمهور بأن الصحافة الحقيقية لا يمكن أن تُمارَس إلا داخل المؤسسات التقليدية التي يتحكم فيها، بينما يتم التشكيك في مصداقية الصحافيين المستقلين ومنصات الإعلام البديلة لمجرد أنها لا تساير “الرأي الواحد”.
الحقيقة أن امجاهد يسعى إلى إعادة ترسيخ هيمنة إعلامية باتت مهددة بفضل فاعلين جدد، ولذلك يختبئ وراء شعارات المهنية والأخلاقيات، في حين أن الهدف الحقيقي هو الحفاظ على امتيازاته وإقصاء كل صوت لا يتماشى مع توجهاته.
مقال يونس امجاهد ليس سوى كلام سطحي وعام ومحاولة في آخر لحظات احتضاره المهني لاستعادة نفوذ متآكل. فهو يسعى للظهور في هيئة المدافع عن القيم المهنية، بينما الواقع يكشف أنه مسؤول سابق فقد شرعيته ويحاول إنقاذ ما تبقى من سلطته. والسؤال الأهم هو: لماذا لا يطبق معاييره على نفسه أولا؟ ولماذا لا يكون أول من يقدم الحساب عن فترة تسييره؟ أم أن المصداقية التي يدعو إليها تنطبق على الآخرين فقط؟
يتحدث عن خطورة المحتوى السخيف، لكنه لا يشير إلى أن هناك ما هو أخطر من السخافة، وهو الكذب باسم المهنية. فأيهما أشد خطرا: مقطع فيديو تافه على يوتيوب، أم مقال مدفوع الأجر يزوّر الحقائق لخدمة أجندة معينة؟
يدعونا إلى “عدم النقر”، لكن الرسالة الحقيقية التي يريد تمريرها هي “لا تفكر”. يريد منا أن نستهلك المعلومات من مصدر واحد، دون مساءلة أو تمحيص. لكنه نسي أن العالم تغيّر، وأن زمن الوصاية الإعلامية قد ولى. فالحقيقة لا تحتاج إلى مجلس وطني لتمريرها، ولا إلى لجنة مؤقتة للتلاعب بها. والصحافة ليست امتيازا يمنحه امجاهد أو يسحبه متى شاء، وليست بطاقة عضوية في نادٍ للنخبة.. الصحافة هي صوت الناس، وعندما يفقد الصحافي صوته المستقل، يتحول إلى مجرد صدى لمن يتحكم فيه.. الصحافة هي نبض المجتمع، وليست أداة في يد من يريد التحكم فيه.
أما يونس، فقد أضاع وقتنا في محاضرة أخلاقية لا تليق إلا بمن مارس الصحافة بشرف، وتحول الى حكيم والى مرجع في المهنة ، وهو بكل تأكيد ليس منهم!

شارك هذا المحتوى