الأنباء بوست / حسن المولوع
منذ سنوات، والشارع الإعلامي يسمع نغمة واحدة تُعزف بلا انقطاع “نحن الأكثر تمثيلية، نحن صوت المقاولات الإعلامية، نحن مرجع الصحافة الوطنية”.
لكن ما بين ما يُقال وما يُمارس، مسافة ضوئية لا تُقاس بخطاب ولا ببلاغ..
فحين يحين وقت الاختبار، تسقط الأقنعة سريعا، وتظهر الحقيقة عارية من الزخارف.
ولعل ما حدث يوم الأربعاء 22 أكتوبر أمام البرلمان كان المشهد الأكثر فصاحة في كشف هذا الزيف..مشهد يُغني عن ألف بيان، ويُعرّي واقع “الفدرالية المغربية لناشري الصحف” التي ظلت تُقدَّم كإطار جامع، فإذا بها تتحول إلى ظلّ خافت لكيان فقد بريقه وتأثيره.
طالما ادعت الفدرالية المغربية لناشري الصحف أنها الإطار الأكثر تمثيلية في قطاع الصحافة والنشر، وأنها المظلة التي تحتضن مقاولات إعلامية كبرى وتشكل “المرجع” في كل ما يتعلق بتنظيم المهنة وتأهيلها.
لكن وقفة الأربعاء 22 أكتوبر كانت كافية لتكشف حجم الوهم والوهن، وتفضح ضعف هذا الكيان الذي ظلّ يعيش على صورة مصطنعة، صنعتها البلاغات والتصريحات، لا الممارسة ولا الحضور الحقيقي في الميدان.
ذلك اليوم، حين تجمّعت هيئات مهنية أمام البرلمان، كان المشهد أكثر بلاغة من أي تقرير ، حيث ظهر رئيس الفدرالية المغربية لناشري الصحف، محتات الرقاص، وحيدا في ساحة الوقفة، وكأنه يؤدي رقصة “أحواش” بلا فرقة، يلوّح بيديه في فضاء خال إلا من الصدى.
لم يكن في الساحة أثر لـ”الجيش الإعلامي” الذي تدّعي الفدرالية أنها تمثله. لا مائة ناشر، ولا ثلاثمائة صحافي، ولا حتى خمسون منخرطا.
ستون شخصا فقط، بينهم عشرة صحافيين لا أكثر.
هكذا ببساطة، سقطت أسطورة “التمثيلية الواسعة”، وظهر الفراغ التنظيمي على حقيقته.
فإذا كانت الفدرالية تضم على الأقل مائة مقاولة إعلامية، فبالمنطق البسيط يفترض أن يحضر مائة ناشر، وكل ناشر يصطحب صحافيا أو اثنين، أي ما لا يقل عن ثلاثمائة شخص.
وإذا أضفنا النقابة الوطنية للصحافة المغربية والاتحاد المغربي للشغل، فإن العدد كان يجب أن يناهز ألف مشارك على الأقل.
لكن الواقع كان صادما: ستّون فردا فقط في ساحة البرلمان، بينهم بعض منتحلي الصفة، وبعض من الباحثين عن “لقطة”.
فهذه ليست وقفة مهنية؛ إنها جنازة رمزية لما تبقّى من مصداقية بعض التنظيمات.
الفدرالية المغربية لناشري الصحف، التي كانت تُقدَّم على أنها شريك استراتيجي في تأهيل القطاع، تحوّلت اليوم إلى رقم ثانوي في معادلة الإعلام الوطني.
والسبب بسيط ، لأنها كانت في قلب الفشل الذي عرفه المجلس الوطني للصحافة السابق.
فهي التي ترأست لجنة المقاولة وتأهيل القطاع، ولم تؤهّل شيئا. تركت المقاولات تغرق في الفوضى، دون هيكلة ولا دعم ولا رؤية.
وهي التي ترأست لجنة التكوين، ولم تُكوّن أحدا. فالتكوينات التي نظّمتها كانت على المقاس، حسب الولاءات والانتماءات، ونتائجها لم تتجاوز الصور الفوتوغرافية والمنشورات الاحتفالية.
وهي أيضا عضو في لجنة منح البطائق المهنية، لكنها التزمت الصمت أمام حالات التعسف والحرمان، وكأنها لا ترى ولا تسمع.
ثم رفضت تجديد الاتفاقية الجماعية، متذرعة بأعذار واهية، تاركة الصحافيين في مواجهة هشاشتهم الاجتماعية بلا مظلة ولا حماية.
أما على مستوى المبادرات، فالفدرالية لم تقدّم أي مشروع إصلاحي ملموس.
لا خطة لدعم المقاولات الصغيرة، ولا رؤية لتطوير النموذج الاقتصادي للصحافة، ولا حتى وثيقة تقييم لتجربتها داخل المجلس الوطني السابق.
كل ما تقوم به هو الصراع من أجل البقاء والمناصب، ولو على أنقاض المهنة.
والمفارقة أن النقابة الوطنية للصحافة المغربية لا تختلف كثيرا..فهي الأخرى كانت طرفا في المجلس الوطني السابق، ولم تصدر يوما تقريرا يشرح للرأي العام ما أنجزته أو ما فشلت فيه..لا محاسبة، لا تقييم، لا نقد ذاتي..وكأن الجميع اتفق على دفن التجربة دون جنازة.
وفي مقابل هذا الجمود، كانت الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين رغم كل الملاحظات التي تُوجّه إليها الإطار الوحيد الذي قدّم عرضا متكاملا لتحسين وضعية الصحافيين، بمقاربة اجتماعية واقعية، لا شعاراتية..عرضٌ يتحدث بالأرقام والمقترحات العملية، لا بالبيانات الرنانة والوقفات المسرحية.
كل هذه الوقائع تقود إلى سؤال مركزي لا يمكن تجاهله: هل نحن فعلا أمام نضال من أجل حرية الصحافة؟ أم أمام صراع محموم على مقاعد المجلس الوطني المقبل؟ هل يُعنى الصحافيون اليوم بمن يمثلهم نقابيا، أم أنهم يبحثون ببساطة عن من يُحسّن وضعهم الاجتماعي ويضمن كرامتهم المهنية؟
الوقفة الأخيرة لم تكن احتجاجا، بل كانت اختبارا، ونتيجته جاءت قاسية..
لقد كشفت أن الكيانات التي تتحدث باسم الصحافيين لم تعد تملك سلطة التأثير، ولا شرعية التمثيل..وأن الفدرالية المغربية لناشري الصحف، التي ملأت الدنيا ضجيجا حول “تأهيل المقاولات”، لم تُؤهّل حتى صورتها.
سقط القناع، وظهر وجه الأزمة الحقيقية: أزمة قيادة، أزمة مصداقية، وأزمة فهم عميق لمعنى النضال المهني في زمن التحولات الكبرى.
ولعل الرقاص سيكتشف، في نهاية العرض، أن الإيقاع قد توقف، وأن الجمهور غادر المقاعد، ولم يتبقَّ في الساحة سوى ضجيج الكلمات وصدى الخطابات القديمة.
فالزمن تغيّر، والمهنة لم تعد تحتاج إلى من “يرقص” باسمها، بل إلى من “يعمل” من أجلها.
لقد انتهى زمن البيانات المسرحية والوقفات الخجولة، وبدأ زمن الصحافيين الحقيقيين الذين لا ينتظرون الفدراليات لتمنحهم الشرعية، لأن شرعيتهم الحقيقية تأتي من الميدان، من القلم، ومن ضمير المهنة الذي لا يُباع ولا يُشترى.
أما من اختاروا البقاء في الماضي، فيكفي أن نقول لهم:
انتهى العرض… أطفئوا الأضواء، فقد سقط الستار.
شارك هذا المحتوى
