الأنباء بوست / حسن المولوع
حين يقرأ المرء البلاغ الصادر عن ما يسمى بـ”الهيئات النقابية والمهنية لقطاع الصحافة والنشر”، يخال نفسه أمام وثيقة صادرة عن تنظيم نقابي قوي يعيش نشوة نصر بعد حراك جماهيري غير مسبوق، لا أمام بيان يتحدث عن وقفة لم يتجاوز عدد المشاركين فيها عدد مقاعد مقهى قبالة البرلمان.
إن أول ما يثير الانتباه في هذا البلاغ هو تلك الثقة المفرطة في توصيف “النجاح الباهر”، وكأننا أمام حدث غيّر مجرى التاريخ المهني.. غير أن كل من حضر أو تابع الوقفة بعين مهنية، يدرك أن المشهد لم يكن سوى تجمّع خافت، بلا رمزية ولا زخَم، تخلله ارتباك في الشعارات، ووجوه لم يعرفها الميدان يوما..
البلاغ يتحدث عن “زخم مهني غير مسبوق”، والحقيقة أن ما حدث هو زخم نقابي باهت ، أعاد إنتاج الخطاب الخشبي ذاته الذي يرفع منذ عقود دون أي أثر في تحسين وضع الصحافي أو إنقاذ المهنة من أزمتها البنيوية.
فالهيئات التي تصف نفسها اليوم بـ”المهنية”، كانت بالأمس القريب جزءا من تجربة المجلس الوطني للصحافة التي انتهت إلى الفشل الذريع، ولم تقدم يوما تقييما نقديا لمسارها، ولم تجرؤ على الاعتراف بأخطائها أو مسؤوليتها في تهميش الصحافيين.
إن الحديث في البلاغ عن “الانتخاب، والاستقلالية، والديمقراطية، والتعددية، والعدالة التمثيلية”، يبدو أقرب إلى ترديد شعارات محفوظة أكثر مما هو تعبير عن قناعة مبدئية. فكيف يمكن لنقابات لم تُجر انتخابات داخلية شفافة ونزيهة منذ سنوات أن تتحدث عن الديمقراطية؟ وكيف يمكن لمنظمات ترفض الشفافية المالية أن ترفع شعار العدالة التمثيلية؟
ثم ما معنى أن تُقدَّم وقفة حضرها عشرات الأشخاص، أغلبهم من قطاعات لا علاقة لها بالصحافة، على أنها “رسالة سياسية ومهنية إلى الدولة”؟
أي رسالة هذه التي يُرسلها عامل عرضي بجماعة تمارة ينتحل صفة صحافي؟ وأي مشهد هذا الذي تتحول فيه الوقفة المهنية إلى مهرجان نقابي ترفرف فوقه أعلام الاتحاد المغربي للشغل وتغيب عنه أقلام الصحافيين؟
يبدو أن البلاغ لم يكتفِ بتزوير الواقع، بل ذهب أبعد من ذلك حين تحدث عن “انخراط المنظمات الحقوقية والمدنية”، وكأن مجرد حضور نقابي أو عابر في الساحة كافٍ لإضفاء الشرعية على حدث بلا مضمون.. إن هذا النوع من “الاستقواء الرمزي” بالمركزيات النقابية، يعكس بالضبط ما أوصل الجسم الصحفي إلى أزمته.. غياب الاستقلالية الفعلية وارتهان القرار المهني للمصالح النقابية والسياسية.
أما الحديث عن “المشروع التراجعي” الذي أعدّته الحكومة، فهو يختزل النقاش في صراع على المقاعد لا أكثر.
فالنقابات التي ترفض نمط الاقتراع الفردي، تفعل ذلك لأنها تعلم أن زمن اللوائح المغلقة كان هو ما يضمن لها استمرار الهيمنة على المجلس الوطني للصحافة.
إنهم لا يدافعون عن مبدأ، بل عن آلية تتيح التحكم في التمثيلية، وفرض الولاءات، وإقصاء المستقلين.
إن رفض الاقتراع الفردي ليس موقفا ديمقراطيا، بل خوفا من الديمقراطية نفسها.
البلاغ دعا إلى “تقدير الزخم غير المسبوق”، بينما الواقع أن ما جرى كان زخما من الغياب، وأن الجسم الصحفي الحقيقي لم يكن هناك، لا لأنه لا يهمه مصير المجلس، بل لأنه سئم من أن يُستعمل في معارك الآخرين.
لقد وعى الصحافيون اليوم أن معركتهم الحقيقية ليست على المقاعد، بل على الكرامة المهنية، وأن من يطالبون بتصحيح “المهزلة التشريعية” هم أنفسهم من صنعوا المهزلة التنظيمية حين كانوا في مواقع المسؤولية.
إن هذا البلاغ، في جوهره، ليس سوى محاولة فاشلة لتجميل إخفاق ميداني واضح، وتحويل فشل تعبوي إلى “انتصار معنوي”.
لكن التاريخ المهني لا يُكتب بالبلاغات، بل بما تتركه الوقائع من أثر في الوعي الجماعي.
وما تركته وقفة الأربعاء، هو قناعة راسخة بأن الجسم الصحفي لم يعد يثق في من يدّعون تمثيله، وبأن “الهيئات النقابية والمهنية” أصبحت، في نظر كثيرين، جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل.
ويمكن القول في هذا الصدد ، إن من أرادوا رفع شعار “لا لقانون تراجعي”، سقطوا في اختبار الصدق حين تراجعوا هم أنفسهم عن قول الحقيقة.
فمن السهل صياغة بلاغ يُثني على “النجاح الباهر”، لكن الأصعب أن تواجه نفسك بسؤال بسيط:
هل كان في ساحة البرلمان صوت الصحافة؟
أم أن الضجيج كله كان صدىً لصراع نقابي قديم يبحث عن جمهور؟
شارك هذا المحتوى
