الأنباء بوست/ حسن المولوع
كان صباح يوم الأربعاء هادئا في ساحة البرلمان بالرباط ، عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة، الوقت الذي كان يفترض أن تمتلئ فيه الساحة بالصحافيين الغاضبين، لكن المشهد جاء مغايرا لكل التوقعات.
حفنة من الأشخاص، لا يتجاوز عددهم الستين، يتوزعون في مجموعات صغيرة، بعضهم يحمل لافتات كتبت بعجلة، وبعضهم يكتفي بالتقاط صور بهواتفهم..هكذا بدأت الوقفة التي روّجت لها هيئات مهنية على أنها “وقفة مركزية دفاعا عن حرية الصحافة”، فإذا بها تتحول إلى تجمع نقابي باهت ..
مراسل الأنباء بوست، الذي كان في عين المكان، رصد تفاصيل دقيقة للمشهد ، فالعدد الإجمالي للحاضرين لم يتجاوز ستين شخصا، من بينهم فقط عشرة صحافيين فعليين، والباقون من نقابيين وموظفين من قطاعات لا علاقة لها بالإعلام.
الوجوه النقابية كانت أكثر من الوجوه الصحافية، والأعلام النقابية خاصة اعلام الاتحاد المغربي للشغل ، غطت على اللافتات المهنية، في مشهد اختلط فيه الدفاع عن الصحافة بمناورات النقابات.
من بين الحاضرين، برز اسم عبد الحميد أمين، أحد القياديين النقابيين المعروفين، ما طرح أكثر من علامة استفهام حول علاقته بقطاع الصحافة والنشر..كما لوحظ حضور بعض أعضاء القطاع البنكي التابع للاتحاد المغربي للشغل (UMT)، إضافة إلى ممثلين عن وحدة صناعية بمدينة سلا، والكاتب الجهوي للنقابة بالرباط.
بدا واضحا أن “الهواء النقابي” كان طاغيا على المكان، وأن “الصحافة” لم تكن سوى شعار يُستعمل لتأطير احتجاج بلا مضمون مهني.

المثير أكثر أن أحد المشاركين كان عاملا عرضيا بجماعة تمارة، معروفا لدى عدد من الزملاء بانتحاله صفة مراسل صحافي، فرغم كونه موظفا شبحا يتقاضى راتبا من ميزانية الجماعة دون القيام بأي عمل فعلي. إلا أن مشاركته في الصفوف الأمامية، ورفعه شعارات باسم الصحافة، أثارت استياء واسعا لدى المهنيين بعمالة الصخيرات–تمارة، الذين اعتبروا الأمر إهانة للمهنة.
ولم تتوقف الغرابة عند هذا الحد.. فالصور التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بعد الوقفة، والتي أوحت بوجود حشد كبير، كانت في أغلبها صورا مولّدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، في محاولة واضحة لتضخيم الحدث وتزييف واقعه.

حتى اللافتة التي رفعت خلال الوقفة حملت خطأ فادحا: إعلان عن ندوة صحافية بتاريخ 21 أكتوبر، بينما الوقفة نُظمت في 22 منه.
تفصيل صغير، لكنه كاف ليكشف غياب الحس الإعلامي والرمزي لدى المنظمين الذين لم يدركوا أن الصورة، في الصحافة، أبلغ من البيان.

بعض المشاركين القادمين من مدن بعيدة قالوا إنهم تلقوا وعودا بتغطية مصاريف التنقل، وهو ما يضع علامات استفهام إضافية حول شفافية الدعوة.
فهل كانت الوقفة فعلا من أجل الدفاع عن حرية الصحافة؟ أم مجرد تعبئة لتصفية حسابات قديمة بين بعض النقابيين والناشرين؟
الوقائع على الأرض ترجّح الاحتمال الثاني..فمن كانوا بالأمس يمدحون الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين، ويشيدون برئيسها، هم أنفسهم الذين تحولوا اليوم إلى معارضين شرسين لها، لا لأن المواقف تغيّرت، بل لأن المصالح تبدلت.
منصات التواصل الاجتماعي امتلأت بخطابات الكراهية المتبادلة، وكأن الهدف لم يعد حماية المهنة، بل الانتقام من أشخاص بعينهم.
في المقابل، لم يقدم أي من الهيئات النقابية المشاركة عرضا واضحا لتحسين الوضعية الاجتماعية للصحافيين.
فالفدرالية المغربية لناشري الصحف، التي شاركت في فشل تجربة المجلس الوطني للصحافة السابق، لم تقدم أي حصيلة أو اعتذار مهني.
النقابة الوطنية للصحافة المغربية، هي الأخرى، كانت طرفا في التشكيلة السابقة للمجلس، لكنها لم تُصدر يوما تقريرا موضوعيا عن حصيلة أدائها أو مواقفها من القضايا الاجتماعية للصحافيين.
أما الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين، رغم ملاحظات كثيرة، فقد كانت الوحيدة التي قدمت عرضا متكاملا لتحسين وضعية الصحافيين المهنيين، وهو ما لم تستطع أي جهة منافستها فيه.
كل هذه الوقائع تضعنا أمام سؤال جوهري ، هل نحن أمام نضال من أجل حرية الصحافة، أم أمام صراع على مقاعد المجلس الوطني للصحافة المقبل؟
وهل الصحافي اليوم معني فعلا بالهوية النقابية لمن يمثلونه، أم أنه يبحث ببساطة عمّن يحسن وضعه الاجتماعي ويضمن كرامته المهنية؟
الحقيقة التي كشفتها وقفة الأربعاء أن الجسم الصحفي أصبح رهينة صراعات تنظيمية، وأن من يرفعون شعار “التمثيلية المهنية” لا يمثلون سوى أنفسهم.
ولذلك، فإن الدفاع عن حرية الصحافة لا يبدأ من الشارع، بل من المصداقية، ومن رفض أن يُستعمل الصحافي كأداة في لعبة تصفية حسابات قديمة.
أما المجلس الوطني للصحافة المقبل، فيجب أن يضم فئة الناشرين بشكل كبير وتمثيلية للصحافيين المهنيين ، ذلك أن المسؤولية القانونية والأخلاقية تقع على عاتق الناشر عند حدوث أي خرق لميثاق أخلاقيات المهنة..فالصحافي في المؤسسة الإعلامية يظل أجيرا، بينما الناشر هو صاحب القرار النهائي والمحاسب عن النشر.. ومن هذا المنطلق، فإن أي تمثيل نقابي داخل المجلس سيمس بدوره الرقابي ويشوّه الغرض الأساسي من وجوده كما حدث في التجربة السابقة إذ اكتشفنا حالة التنافي ، وبالتالي فإن نمط الاقتراع الفردي هو الضامن الوحيد لاستقلالية المجلس وحماية مصالح الصحافيين، إذ يتيح لأي صحافي تمثيل الصحافيين بشكل فردي دون أن يُستغل ضمن لائحة تتحكم بها نقابة أو شخصية محددة، كما يحدث عند اعتماد الاقتراع اللائحي الذي يفتح المجال للهيمنة والتلاعب بالتمثيلية. فهذا الترتيب يضمن أن يكون المجلس هيئة مهنية مسؤولة، تركز على حماية الشفافية والمصداقية الإعلامية، وليس منصة للنفوذ الشخصي أو تسويات المصالح النقابية الضيقة.
إن ما جرى يوم الأربعاء أمام البرلمان لم يكن مجرد خلل تنظيمي، بل تجسيدا لأزمة تمثيلية تضرب الصحافة المغربية في عمقها.
فالذين يتحدثون باسم الجسم الصحافي فقدوا منذ زمن الشرعية الأخلاقية والمهنية التي تخولهم قيادة النقاش حول مستقبل المهنة.
لقد تحولت الهيئات المهنية إلى جزر صغيرة، يتقاذفها طموح الزعامة ومصالح التقاعد، فيما ظل الصحافي الحقيقي الذي يواجه في الميدان ضغوط العمل وهشاشة الأجور مجرد رقم يُستعمل لتزيين الصور الجماعية.
إن المشهد الذي رُصد في وقفة الأربعاء لا يُختزل في ضعف الحضور، بل في غياب البوصلة..فبين نقابات تبحث عن نفوذ مفقود، وفدراليات تخشى المحاسبة، وجمعيات تتنافس على منبر الخطاب، ضاع صوت الصحافة التي وُجدت لتراقب لا لتُستعمل.
إن لحظة الصدق الوحيدة التي تحتاجها المهنة اليوم، ليست وقفة أمام البرلمان، بل وقفة أمام المرآة.
حينها فقط سندرك أن المعركة الحقيقية ليست على مقاعد المجلس الوطني للصحافة، بل على استعادة شرف المهنة من بين أنياب الريع والمصالح الضيقة.
شارك هذا المحتوى
