
الأنباء بوست / حسن المولوع
ليس غريبا أن يخطئ صحافي على الهواء، لكن الغريب والمُخجل أن يتحول خطأ عابر إلى ساحة تصفية حسابات، وأن تتحول زلة لسان بسيطة إلى ما يشبه جريمة وطنية في أعين بعض النفوس المريضة. هذا ما حدث مع الصحافية المقتدرة سناء رحيمي، مقدمة الأخبار بالقناة الثانية، التي وجدت نفسها هدفا لهجوم رخيص، orchestré بعناية من صفحات مأجورة ومواقع إلكترونية لا تخفي ولاءها للحكومة، ولا تتردد في تحويل أي هفوة إلى ذريعة لتشويه سمعة صحافي جريء قال كلمة حق في وجه سلطة متعجرفة.
الكل يعلم أن زلات اللسان أمر مألوف حتى في كبريات القنوات العالمية، من “بي بي سي” إلى “سي إن إن”، حيث يخطئ المذيعون وهم من أهرامات الإعلام الدولي. فمن لم يجرب الوقوف أمام الكاميرا لا يعرف رهبة الأضواء ولا ثقل اللحظة. إذ أمام التليبرومتر قد تُنسى أبسط الجمل المحفوظة، وأمام الميكروفون قد تخونك الذاكرة رغم خبرتك الطويلة. حتى أئمة المساجد يخطئون أحيانا في تلاوة القرآن الكريم الذي حفظوه عن ظهر قلب، فهل نقيم الدنيا ولا نقعدها ونزعم أنهم حرّفوا كلام الله؟
الزميلة سناء رحيمي لم ترتكب “خطيئة القرن”، بل نطقت سهوا بالعيد الـ72 بدل الـ62، ثم صححت الأمر في نفس النشرة، ومع ذلك لم يشفع لها التصحيح ولا تاريخها المهني الطويل ولا حضورها الراسخ في بيوت المغاربة. لكن لأن الغرض مرض، استغلوا الفرصة للنيل منها، وصوّروا زلة عابرة كأنها إهانة للملك وللبلاد! بينما المنطق والعقل يقولان العكس: أن تتمنى لها زلة لسان طول العمر لجلالة الملك هو فأل خير ودعاء مستتر بأن يطيل الله عمره.
هؤلاء الذين يهاجمون سناء رحيمي نسوا أو تناسوا أنها لم تكن فقط مقدمة أخبار، بل كانت تتحمل ضغط البث المباشر في أكثر من نشرة، تعوض زملاءها المتغيبين وتمنحهم حقهم في العطلة. نسوا أنها صحافية كرست سنواتها للخبر والبحث والتدقيق، وأنها واحدة من الأصوات المهنية التي ما زالت تحفظ لصحافة التلفزيون هيبتها وسط زمن الرداءة والسطحية.
لكن حين ننظر بعمق إلى خلفيات الهجمة، سنفهم جيدا أن الأمر أبعد من مجرد “زلة لسان”. فالهجوم انطلق أساسا من نفس الجهات التي لا تكف عن تبييض وجه الحكومة وتلميع قراراتها الفاشلة. هي مواقع إلكترونية تعيش من إشهارات شركات محسوبة على رئيس الحكومة، وصفحات فيسبوكية مخصصة للتطبيل والتصفيق. لماذا؟ لأن سناء رحيمي تجرأت في ندوة عمومية على مساءلة الحكومة بجرأة نادرة. لأنها رفعت صوتها عاليا لتقول إن غياب التواصل مع المواطنين يفتح الباب أمام الإشاعة والخوف والبلبلة. لأنها انتقدت بوضوح صمت الوزراء في أزمات صحية كأزمة الحصبة، واعتبرت أن صمتهم يُفقد المواطنين الثقة في المؤسسات. يومها صفّق لها الحضور، وتعاطف معها الشعب، بينما ضاقت صدور المسؤولين ومن يدور في فلكهم.
هذه هي الجريمة الحقيقية لصحافية تجرؤ على ممارسة وظيفتها الطبيعية، أي محاسبة السلطة ومساءلة الوزراء. ومنذ ذلك اليوم صار واضحا أن بعض “الموالين” ينتظرون سقوطها في أي هفوة لينهشوا لحمها، وهو ما حصل. لكنهم لم يدركوا أن ما فعلوه لا يزيدها إلا قوة واحتراما، ولا يزيدهم هم إلا سقوطا أخلاقيا ومهنيا.
إن الدفاع عن سناء رحيمي ليس دفاعا عن شخص فقط، بل هو دفاع عن حق كل صحافي في أن يخطئ دون أن يُصلب، ودفاع عن جوهر المهنة في مواجهة من يحاول تحويلها إلى أبواق مأجورة. نحن أمام معركة قيم: بين صحافية مهنيّة ترفع صوتها من أجل الشفافية والوضوح، وبين طغمة من “الكتبة” و”المؤثرين” ممن يبيعون الكلمة ويشترون بها رضا السلطة.
سناء رحيمي لا تحتاج إلى شهادات منا، فهي حاضرة بعملها وكفاءتها، والتاريخ المهني شاهد لها لا عليها. أما خصومها، فسيظل اسمهم ملطخا في ذاكرة المهنة بأنهم حاولوا الاصطياد في زلة لسان، لأنهم أعجز من أن يناقشوها بالحجة أو يواجهوها بالمهنية.
ما هكذا تُبنى الصحافة، ولا هكذا يُنتقد الإعلام. زلة لسان لا تساوي شيئا أمام زلات حكومة بأكملها، ارتكبت أخطاء قاتلة في السياسات والقرارات ولم تحاسب عليها بعد. فمن الأجدر أن توجهوا سهامكم هناك، حيث الفشل الحقيقي، لا أن تفرغوا عقدكم وحقدكم في صحافية وقورة اسمها سناء رحيمي.

شارك هذا المحتوى