الأنباء بوست/ حسن المولوع
نُظمت الوقفة الاحتجاجية اليوم أمام البرلمان ، تلك التي رُوّج لها كما لو كانت “ملحمة صحفية” ستُعيد ترتيب موازين المهنة، وتُسمع صوت الصحافيين المقهورين.
لكن ما رأيناه لم يكن سوى مشهد يوحي بالوهن والانحدار لمسرحية مكررة ، حضر فيها ممثلون فقدوا الحماس ، ووقفوا على الركح بأقنعة مهترئة ، بينما الجمهور أي الصحافيون الحقيقيون اكتفى بالمشاهدة عن بُعد، صامتا، غير مقتنع، وربما شامتا أيضا.
الذين تعبوا من الركض خلف شعارات لا تسمن ولا تغني من كرامة، اكتفوا اليوم بالنظر من بعيد.
الذين عانوا في صمت من الهشاشة والتهميش والابتزاز باسم التنظيم المهني ، لم يروا في تلك الوقفة سوى تصفية حسابات صغيرة بين متقاعدين ضاقوا بفقدان النفوذ ، وأشخاص يريدون استعادة وهج زائف في آخر العمر المهني ..
عبد الكبير أخشيشن، الذي ظلّ لسنوات يتحدث بلغة “النضال”، كان اليوم أشبه بظلّ نفسه.
جالس في صمت ثقيل ، كمن فقد الحيلة والبريق معا.
كان يعلم في قرارة نفسه، أن زمن الهيمنة النقابية قد انتهى ، وأن الاقتراع الفردي الذي يُقاتل ضده ليس مجرد بند قانوني ، بل رصاصة رحمة في جسد ديكتاتورية نقابية عمرت أكثر مما يجب ..
لقد أدرك أن زمن تفصيل اللوائح على المقاس ، وترتيب الأسماء في الكواليس ، وتوزيع المقاعد حسب الولاءات ، قد ولى.
ولذلك بدا شاردا، خائفا ، متوجسا من الغد الذي لن يجد فيه من يصوت عليه ، لا من باب القناعة ولا حتى من باب المجاملة..
ولم يكن وحده في التيه ؛ فإلى جواره كان الهركاوي باشا ذلط الأنثوي الذي اختار أن يحوّل الوقفة إلى جلسة تصوير مجانية.
بين صورة وأخرى مع وجوه نسائية ، بدا المشهد أقرب إلى عرس نقابي ساخر منه إلى احتجاج مهني ..
كأن المهنة قد صارت زينة تُلتقط معها الصور ، لا قضية تُدافع عنها المواقف ..
ذلك هو اختصار مأساة الجسم الصحفي المغربي ..ضجيجٌ بلا أثر، واحتجاجات بلا مبدأ.
أما النقابات والهيئات المهنية ، فقد حضرت وهي تُخفي في صدرها شكًّا مرًّا في نوايا بعض قيادييها.
فالكل يعلم أن أخشيشن لا يُؤتمن ، وأنه يجيد تغيير المواقع حسب مصلحته الخاصة ..
حتى الذين وقفوا إلى جانبه ، يفعلون ذلك وهم يضعون أيديهم على قلوبهم ، خوفا من أن يبيعهم في أول صفقة ..
كل شيء صار مكشوفا.. النوايا، التحالفات، الغايات.
فلم يعد من الممكن أن تُخدع الأجيال الجديدة من الصحافيين بشعارات جوفاء عن “الكرامة” و”المبادئ” ، بعدما رأوا بأعينهم من كان بالأمس يصفق للجمعية الوطنية للإعلام والناشرين ، ويُقبّل رأس رئيسها، كيف صار اليوم يتهمها بالهيمنة والفساد ، فقط لأنها لم تعد تمنحه مقعدا على الطاولة ..
إن ما سُمّي بـ”الوقفة المركزية” لم يكن سوى تجمهر المتقاعدين ضد التقاعد ، واحتجاجًا على فقدان السيطرة أكثر مما هو دفاع عن المهنة ..
لم تُرفع فيها شعاراتٌ عن الأجور الهزيلة ، ولا عن غياب الحماية الاجتماعية ، ولا عن وضع الصحافي الميداني الذي يغامر بحياته مقابل بضع دراهم ..
الحديث كان فقط عن المقاعد والتمثيلية واللجان… كأن الصحافيين مجرد أرقام انتخابية في سباق على مواقع رمزية لا تسمن ولا تُطعم خبزا..
ثم أين كانت هذه النقابات والهيئات حين كانت حرية الصحافة تُذبح أمام الناس؟
أين كانت حين كان الصحافيون يُعتقلون ويُجرّون إلى المحاكم؟
لماذا لم تُنظم وقفات وقتها؟ لماذا لم تصرخ حين كان المجلس الوطني للصحافة يُفرغ من محتواه ويُحوَّل إلى إدارة شكلية؟
بكل بساطة ، لأنهم كانوا شركاء في الفشل، صامتين، مستفيدين من فتات المناصب ، مطمئنين إلى امتيازات صغيرة مقابل صمتٍ كبير..
أما اليوم وقد سُحب البساط من تحت أقدامهم ، فقد تذكروا فجأة أن هناك قانونا ظالما ومجلسا يجب إصلاحه.
لكن لا أحد في الميدان يصدقهم بعد الآن ..
لقد انتهى زمن الخطابات الخشبية، وانتهت معه تلك الهالة القديمة التي كان يحيط بها النقابيون أنفسهم كـ”حماة للمهنة”.
فالصحافيون اليوم، خصوصا الجيل الجديد، يرون الحقيقة كما هي:
نقاباتٌ تتصارع على النفوذ، وجمعياتٌ تبحث عن شرعية، ومشهدٌ يترنح بين الازدواجية والتواطؤ.
في المقابل كانت الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين رغم كل الملاحظات عليها الطرف الوحيد الى حدود الآن الذي قدم عرضا ملموسا لتحسين وضعية الصحافيين.
بينما اكتفى الآخرون بالتنديد والوعود الفارغة.
فكيف نصدق من لم يحقق شيئا طوال سنوات من التمثيلية ، وهو اليوم يُحدثنا عن الإصلاح؟
كيف نثق في من لم يفتح فمه حين كان المجلس يُحتضر ، وهو الآن يدّعي الغيرة على مستقبله؟
إنهم كمن يبكون على ميت كانوا هم من خنقوه بأيديهم ..
الاختلاف مع خط تحرير بعض المنابر المنضوية تحت لواء الجمعية لا يُبرر شنّ حرب ضدها.
فكل منبر حر في توجهه واختياراته ، والفيصل دائما هو المهنية، لا الولاء النقابي.
أما الذين يريدون أن يُقنعوا الصحافيين بأنهم يقاومون “الهيمنة”، فهم في الواقع يقاومون فقط انتهاء عصر الامتيازات القديمة.
نعم، لدينا ملاحظات على مشروع القانون الجديد ، لكننا نرفض أن نُستعمل كوقود في معركة لا تخصنا.
لسنا أدوات لتصفية الحسابات، ولسنا قطعانا تُقاد بالعواطف.
نحن صحافيون، لا أتباع.
نحن أصحاب كرامة ، لا بيادق في رقعة السياسة النقابية.
وفي الختام، نوجه النداء لكل زميل وزميلة..
لا تكونوا قطيعا يُساق إلى وقفات جوفاء باسم الدفاع عن المهنة، بينما المقصود هو استعادة مقعدٍ مفقود أو نفوذ زائل.
تذكّروا أن من يتباكون اليوم على “التمثيلية” هم أنفسهم من كانوا بالأمس يقبّلون رأس رئيس الجمعية الوطنية، ويشيدون بإنجازاته، ويطلبون وده في الخفاء.
وحين لفظهم، استيقظت فجأة ضمائرهم المصلحية، فصاروا يتحدثون عن الحرية والاستقلالية.
لكن الصحافيين الحقيقيين لا يُخدعون مرتين.
هم يعرفون من كان معهم حين اشتدت العاصفة، ومن كان يختبئ خلف البيانات الغامضة.
يعرفون أن الإصلاح لا يصنعه المتقاعدون الغاضبون، بل يصنعه جيلٌ جديد يرفض أن يُقاد، ويكتب تاريخه بنفسه، بلا إذن من أحد.
شارك هذا المحتوى
