أحببت زهرة التوليب في حياتي وتزوجت بها يوم القيامة

حسن المولوع

لم تكن زهرة التوليب تعلم أنني أحبها ، وحتى إن علمت فإن الحب بيننا سيكون مستحيلا، لاعتبارات يفرضها الزمان والمكان ، والفروقات الإجتماعية، ولقانون وضعه المجتمع ، هكذا هي الحياة الدنيا القاسية ، لا تعطينا ما نتمناه …

في تلك الليلة الليلاء ، من الزمن الذي لم يعد يطاق فيه العيش، كانت دقات قلبي متسارعة وكأنها في سباق مع الزمن تريد أن تدرك اللحظات الأخيرة من الحياة ، أخرجتُ كل صورها ووضعتها على سريري ، كل كتاباتي عنها ، كل الأشياء المتعلقة بها ، أمسكت قلمي لأكتب السطر الأخير عنها في دفتر خصصته لها وحدها ، كان السطر الأخير هو شهادة اعتراف بحب يستحيل أن يتحقق على أرض الواقع، ورغم ذلك كتبت السطر الأخير من رواية كان القاسم المشترك بيننا فيها هو القدر، القدر الذي ساقنا لبعضنا دون أن نفهم لماذا وكيف ؟ …

جمعت كل الأشياء ووضعتها في ركن سري من البيت كما المعتاد ، لأنني أخفي حبي لها عن الجميع وأتظاهر أنني أكرهها كلما نطقوا باسمها أمامي ، أطفأت نور الغرفة فإذا بها تظهر أمامي كنور يشع ويخترق الفضاء ، فرحت جدا لقدومها وحاولت أن أقوم لمعانقتها واقول لها ما تخبؤه دواخلي عنها ، لكن، لم يمهلني القدر، فجاء ملك الموت ليخطفني من الحياة ، قاومته بكل ما أوتيت من قوة، وأثناء مقاومتي له أستجديه عساه يتركني لحظة لأقول لها السطر الأخير ، لأقول لها إنني أحبك، وفجأة ، صرت جثة هامدة لا تقوى عن الحركة .

في صباح اليوم ، جاءت أمي لتوقظني، حسن يا حسن ، أسمعها ولا استطيع الرد ، حسن انهض، انهض ، وأنا جثة هامدة باردة ، بعد ذلك يرتفع صوت أمي بالصراخ ، بني ، بني أي بني لمن تركتني ، تبكي وتئن ويأتي أبي ليتيقن ويكتشف أنني فعلا غادرت الحياة ، أنظر إلى أبي فأجده مكسور الجناح ولا يردد إلى ما قاله الله وقاله رسوله ، ينخرط معهما أخواتي في النحيب ، وبسرعة يجتمع أهل الحي وتأتي العائلة ، أسمع بكاءهم وأنا بالغرفة مسجى على سريري عاريا الا من ملاءة وضعت عني ، يرن هاتفي الذي كان بجانبي ، وأعرف أن الاتصال هو من زهرة التوليب، لأن رقمها الهاتفي خصصته برنين” tum hi ho ” التي عندما كنت في الحياة أسمعها واستذكرها كلما اشتقت إليها ، يواصل الهاتف رنينه وأحاول أن أنهض لأجيبها وأقول لها السطر الأخير ، لكن ، فات الأوان ، فلقد رحلتُ عن حياتهم ، تدخل أختي للغرفة وتمسك الهاتف مجيبة لها ، سمعتها أنها قالت “حسن مات الله يرحمو صبح ميت او غادي ندفنوه ليوم ” ، وما إن انقطع الاتصال ووضعت أختي هاتفي في مكانه ، استعدت شريط الذكريات ، لحظات لقاءاتي الخاطفة بها ، لحظات صراعاتنا ، لحظات فرحنا ، تبادل أفكارنا ، جمالها ، وألوان ألبستها الزاهية ،رائحة عطرها ،كل شيء ، وفي كل شيء ذكرى من الذكريات الجميلة التي لن تنسى، ووثقتها بتفاصيلها في الدفتر الخاص بها .

وأنا أستذكر كل تلك التفاصيل ، حتى رأيتها منتصبة أمامي ، إنها زهرة التوليب التي لا يشبهها أحد ، فريدة في الجمال والكمال ، إنها أمامي الآن بعدما غادرت الحياة ، جاءت لتعزي أمي في هذا المصاب الجلل الذي لا راد لقضاء الله فيه ، كانت بنفس الشكل الذي رأيتها فيه حينما خطفني ملك الموت ونزع أنفاسي الأخيرة بكل قسوة ، اقتربت مني وقبَّلت جبيني البارد ، ضمتني إلى صدرها وأنا استنشق عطرها وهي صامتة لأنها لم تصدق وفاتي، أزاحت عني الملاءة فإذا بها تكتشف أنني وشمت اسمها في مناطق متفرقة من جسدي ، ورسمت صورتها على قلبي ، ظلت تكتشف مناطق جسدي النحيل وما وشمته به ، صادفت عيناها رمزا وضعته إلى جانب صورتها التي رسمتها على قلبي، لم تفهمه حينها ، وبقي عالقا في ذاكرتها (…)

لقد وصل موعد حملي من على سرير الموت بعدما قاموا بكل مستلزمات الوفاة ، حملوني على النعش والجميع يبكي وينوح ، إلا زهرة التوليب أراها مصدومة ، وأحس بأنها تتساءل عن ذلك الرمز الموشوم على جسدي ، أدخلوني سيارة نقل الأموات ، وانطلق الموكب الجنائزي نحو نهايتي الأخيرة ، جنازتي جمعت كل الأطياف والتوجهات والإيديولوجيات ، لم أتمكن في حياتي أن أجمع الملحد مع المؤمن ، اليهودي والنصراني والمسلم ، السارق والناهب للثروات مع الأمين ، المنافق والصادق ، كان من يوجد في جنازتي من هو سكران في تلك اللحظة ، الجميع كان موحدا ويدعو لي بالرحمة والمغفرة ، بل هناك من صلى علي صلاة الجنازة وهو لا يصلي أصلا في حياته اليومية ، الكل يريد أن يُكتب له الأجر ، فهؤلاء يحملون نعشي مقابل أجر سيكتب لهم في ميزان حسناتهم ، وهؤلاء يساعدون حفار القبور ويجلبون له الحجر ويساعدونه على اخفاء جثتي لينالوا الأجر ، كل شيء بالمقابل ولا شيء بالمجان ، أعرفهم واحدا واحدا ، حتى ذلك الذي جاء ليقرأ عني القرآن ويعطي الموعظة أمام جموع المتحلقين على قبري ، أعرف أنه نصاب وآكل لمال اليتامى وكان يتزوج القاصرات ويتحرش بالنساء المتزوجات ، كلهم اجتمعوا أمام قبري وتواريت عنهم إلى غير رجعة ، وبعد ذلك انفض الجميع وبقيت وحيدا في ذلك المكان المظلم، أنتظر من يأتي ليسألني حتى أجتاز الامتحان بسلام ، انتظرت طويلا ولم يأت أي أحد، حينها أصبت بالصدمة أنني اكتشفت الحقيقة ، حقيقة أنني ما كنت اقرؤه مجرد خرافات أو أن هناك أشياء مبالغ فيها …

وصل الليل وأنا وحيد في قبري، وظلت روحي تتصل بروح زهرة التوليب التي مازالت مصدومة من رحيلي ، تنام على سريرها وتتساءل عن السر وراء ذلك الرمز ، ظلت على هذا الحال أياما وأسابيع حتى وجدت الحل ، فعادت إلى منزلي لتكتشف المكان السري الذي أخبئ فيه كل الأغراض المتعلقة بها ، بما فيها الدفتر الذي خصصته لها لوحدها ، من بين الاغراض كانت وصية موجودة ، أقول فيها “إن الدفتر الموجود لا يطلع عليه أي أحد إلا زهرة التوليب وحدها والأغراض الموجودة رفقته تأخذها هي وأطلب منها أن تكمل الحكاية (…)

عادت إلى بيتها وفتحت الدفتر وصارت تقرؤه ، لتكتشف أنني كنت مهتما بتفاصيل حياتها من دون ان تعلم ، ووصلت إلى السطر الأخير وعرفت بأنني كنت أحبها لكن لم أقل لها ما كنت أخبؤه في دواخلي ، قرأتْ السطر الأخير من الدفتر، وقلبت الصفحة ، وأخدت تكتب بقية الرواية …

صارت كل يوم تحدثني وأحدثها ، أرواحنا هي التي تخاطب بعضها ، وفي كل حديث تكتب فصلا من الرواية ، ومرت السنون وبدورها كتبت السطر الأخير ومعه وصية مكتوب عليها “عند وفاتي ادفنوني إلى جانب قبر حسن وستأتيكم نهاية كل الفصول لتنشروها ” ، وهكذا كان ، التحقت بي إلى حيث مستقرنا قبل الصعود إلى السماء سويا ، وضعوها في قبرها ، ولما انصرف الجميع من مراسيم الدفن ، صرنا نحفر جدران قبورنا ، أحفر أنا من هنا وهي تحفر من هناك ، إلى أن وصلنا إلى نقطة الإلتقاء ، جلسنا سويا في تلك الليلة جلسة رومنسية ، وكشفنا لبعضنا عن السطر الأخير ، ووقعت القيامة ، وصعدنا إلى السماء إلى حيث سنقيم حفل زفافنا …

مررنا فوق الصراط المستقيم والملائكة تزفنا ، المؤمنون والكفار ، الرسل والأنبياء ، والحور العين ، الشيطان والجن كلهم حضروا حفل زفافنا وبعدها صعدنا إلى الجنة، لنبدأ فصلا آخر من الرواية …..يتبع

تعليق واحد

  1. سلمت اناملك يا ابن العم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *